كم تغيرت الظروف! ليس بصيغة السؤال، وإنما بعد وضع إشارة التعجب.. وتأتي إشارة التعجب تلك بعد أن يكتب جوناثان ماركوس وهو مراسل الشؤون السياسية والدبلوماسية في البي بي سي ” يسعى التركي رجب طيب أردوغان إلى تخليص نفسه من موقف صعب في سوريا، ومن ثم فهو يتجه إلى العاصمة المعنية، ونعني بها موسكو وليس واشنطن”.
غير أن إشارة تعجبه تلك تبدأ بإزالة الغموض عنها واستعادة أسبابها بعد أن يكتب:”قبل زمن ليس بالبعيد كانت أمريكا هي اللاعب الخارجي المسيطر في المنطقة، لكن الأمر لم يعد كذلك”.
ـ إذن ما الذي تغير؟
المتغير هو “استهانة الرئيس ترامب بالتفكير الاستراتيجي ورغبته في الانسحاب بواشنطن من منطقة مضطربة من العالم أسهمتا في تغييب النفوذ الأمريكي في هذه المنطقة”.
أما عن الانسحاب الأمريكي اسراتيجيًا، فربما يأتي عن تخليها أو شبه تخليها عن حليفها في الناتو وانجرلك تركيا، حتى باتت الولايات المتحدة لاتقوم سوى بـ “تقدّيِم دعمًا معنويا لتركيا ولكن بلا أسلحة”، ما يعني أنه دعمًا بلا ذخيرة، وهكذا وجدت أنقرة نفسها وقد ارتمت بالحضن الروسي.
وهكذا بات في سوريا لاعبين:
ـ موسكو وأنقرة.
أما موسكو ومنذ وقت مبكر قررت عبربوتين نشر قوة جوية للحيلولة دون سقوط النظام السوري. وما أن استقر وضْع الرئيس بشار الأسد، حتى استخدمت روسيا قوتها الجوية في مساعدة هذا النظام في استعادة أراض من أيدي المعارضة المسلحة. وباتت إدلب آخر الساحات الرئيسية لهذه المعارك.
إميل الحُكيّم، وهو الخبير في شؤون الشرق الأوسط لدى المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، يرى بأن لعبة تهجير السكان التي مارستها روسيا ” ليست ناجمة عن الاقتتال في سوريا، وأن استراتيجية الرئيس الأسد منذ البداية كانت تستهدف نزوح السكان”.
يالخطورة هذا الكلام، والأخطر أنه الأقرب إلى الصحة، وهو (ونعني النزوح) بات استثمارًا تركيا وروسيًا مشتركًا في مواجهة أوربا، بما يعني بأن ثمة شراكة، بل واتفاقًا مابين موسكو وأنقرة، وكل (حسب جهده)، وكل وفق أولوياته على تهجير السكان السوريين، ليكون التهجير والنزوح واحدًا من الأولويات المتفق عليها، دون نسيان أن أولوية تركيا كانت تهجير المناطق الكردية، ومن بينها عفرين، فالعقدة الكردية مازالت تتحكم بالسياسات التركية، وروسيا تغض الطرف حتى أحلت تركيا سكّانًا مكان سكان، استكمالاً لمشروعها في التتريك، وهو مشروع ستتظهّر ملامحه اليوم في إحلال العملة التركية مكان العملة السورية في المناطق التي تسيطر عليها تركيا، بعد أن استبقتها بالاعلام التركية التي ترفرف فوق الدوائر الأمنية والإدارية في عفرين، و”برضى روسي”.
والآن وقد انتهت مواسم الحصاد وبات العمل العسكري في نهاياته، بات الحديث على البيدر.. على المحصول، ما يعني مواجهة استحقاقات تقاسم النفود، وقد باتت القوات السورية بغطاء من الجيش الروسي في مواجهة القوات التركية مباشرة وباتت المساعي التركية، كل المساعي في العثور على صيغة لوقف العمليات القتالية في ادلب، لتكون ادلب لتركيا، ومبروك على الروس منطقة كسب، وقاعدة حميميم، والشريط الساحلي السوري برمته، لتنتهي حكاية تقسيم النفوذ على سوريا.
اليوم ثمة حسن جوار روسي ـ تركي، ولكن السؤال:
ـ وهل تستمر هذه ترتيبات طويلا؟
ربما لا.
لكن تركيا، التي تسيطر على جيوب أخرى في سوريا، تعلم أنها لو تراجعت في إدلب، فإن مواقع سورية أخرى قد تتعرض (على الأقل من وجهة نظر أنقرة) لهجمات مشابهة من قوات نظام الأسد.
بالنسبة لروسيا تمثّل سوريا أحد مواقع النفوذ الخارجية القليلة المتبقية لموسكو.
وعلاوة على ذلك فإن وجود روسيا في سوريا يعتبر نواة لتوسّع روسي في المنطقة. ولقد هيّأ هذا الوجود الفرصة أمام روسيا لمغازلة تركيا -الحليف البارز في حلف شمال الأطلسي (ناتو)- في فرصة سانحة لإضعاف جبهة التحالف الأطلنطي.
في سوريا أصيب أردوغان بإحباط جرّاء الغياب الغربي في أزمة سوريا، ومن ثم اتجه الرئيس التركي إلى روسيا، حتى لو أدى شراء نظام دفاع جوي روسي متطور إلى استبعاد أنقرة من برنامج المقاتلات إف-35، وهو ما يعتبر خبرا جيدا لموسكو.
ـ نعم سيكون خبرًا جيدًا، ذلك أن روسيا اليوم تضع كفيها على بوتين كما تضع بشار الأسد في جيبها، فالأول تمنحه السلاح بذخائره، والثاني تحميه من السقوط تحت ضربات شعبه، وبالنتيجة ستكون موسكو الرابح الأكبر، وهذا ما سيقود إلى التساؤل ماذا عن المستقبل؟
بات من الواضح أن روسيا اطلقت اليد التركية في المناطق التي يسيطر عليها حلفاء تركيا، مقابل أن تذعن تركيا للسيطرة الروسية على ما تبقى من سوريا، دون نسيان أن فيما تبقى ثمة قوات إيرانية.
التسوية أنجزت مع تركيا، ولكن مع الايرانيين :
ـ لا تسوية.
التسوية الوحيدة الممكنة هي في الاحتكام للقوة والغلبة لتكون إيران خارج اللعبة، وهكذا ستبقى سوريا عالقة بين فكي اللعبة الدولية.
ـ تسويات هنا، ورفع السلاح هناك.
والبلد في أرجوحة قد تكون أطول مما نتوقع.