بيريز ونتنياهو… حوار “السوق” و”الثكنة”

صندوق المرصد

رغم أن كلاً من شيمون بيريز وبنيامين نتنياهو ينتميان إلى ضفتين مختلفتين في الخارطة السياسية الإسرائيلية، إلا أن القراءة المتعمقة لكتابيهما الأساسيين تكشف عن ملامح مشروعين متوازيين أحياناً، ومتقاطعين أحياناً، ومتضادين في الجوهر أحياناً أخرى.

كتاب “الشرق الأوسط الجديد” لشيمون بيريز الصادر عام 1993، وكتاب “مكان تحت الشمس” لبنيامين نتنياهو الصادر عام 1995، يشكّلان معاً وثيقتين تلخصان طموحات إسرائيل، وهواجسها، وحدود رؤيتها لمستقبل المنطقة. لكن الفرق الأساسي يكمن في اللغة، والأدوات، والأولويات، بل وربما في عمق الإيمان بفكرة التعايش ذاتها.

شيمون بيريز، في كتابه، لا يُخفي انبهاره بنموذج الاتحاد الأوروبي، ويحاول تسويق حلمه بتكرار هذه التجربة في الشرق الأوسط، عبر تفكيك الصراعات السياسية والدينية وتحويلها إلى علاقات اقتصادية وشبكات مصالح عابرة للحدود، يقدّم نفسه كرجل “السلام الذكي”، الذي لا يُراهن على المثالية بقدر ما يُراهن على براعة الاقتصاد والتكنولوجيا في تفكيك العقد السياسية، مُغلفاً مشروعه بلغة برّاقة عن التنمية، التعاون الإقليمي، و”الشراكة لا التبعية”، رغم أن كثيراً من النقاد يرون في هذا الطرح محاولة لتكريس إسرائيل كقوة مهيمنة ناعمة، تُحكم قبضتها على مفاصل المنطقة الاقتصادية، دون الحاجة إلى الجيوش.

في المقابل، يأتي بنيامين نتنياهو في “مكان تحت الشمس” بلغة مختلفة تماماً، تستبطن عدوانية أيديولوجية واضحة، وتستند إلى رواية تاريخية دينية وقومية، ترى في إسرائيل مشروعاً وجودياً محاصراً، يفرض عليه البقاء أن يتمسك بالقوة، وبحقه التاريخي في الأرض، وبالتفوق العسكري والأمني قبل أي شيء آخر. نتنياهو لا يؤمن، في جوهر خطابه، بفكرة شرق أوسط متكامل اقتصادياً ومتسامح سياسياً، بل ينظر بعين الريبة لكل محاولات التقارب الإقليمي التي لا تمر أولاً عبر الإقرار الصريح بـ”حق إسرائيل في الوجود على أرضها التاريخية”، كما يُعرّفها، والتي تمتد في خطابه، ضمناً، إلى ما هو أبعد من حدود 1967

التقاطعات بين المشروعين محدودة لكنها غير معدومة. فكلاهما ينطلق من قناعة راسخة بتفوّق إسرائيل، وضرورة ضمان أمنها المطلق، وكلاهما يُدرك أن إسرائيل لا تستطيع أن تعيش معزولة عن محيطها العربي والإقليمي. غير أن بيريز يعتقد أن هذا الاندماج يمكن أن يتم عبر الاقتصاد والتكنولوجيا، بينما يراهن نتنياهو على القوة الصلبة، والتفوق العسكري، وفرض الوقائع السياسية، باعتبارها شروطاً مسبقة لأي انفتاح إقليمي.

من ناحية أخرى، يُمكن القول إن مشروع بيريز أقرب إلى عقل إسرائيل الليبرالي الطامح للاندماج الناعم مع المنطقة، وهو مشروع نخبوي يستند إلى أوساط رجال الأعمال، والتكنوقراط، ودوائر العلاقات الدولية الغربية. أما مشروع نتنياهو، فهو أقرب إلى عقل إسرائيل القومي الشعبوي، الذي يُخاطب المخاوف الوجودية، ويستنهض رواية الضحية المحاصَرة، ويُغذّي القاعدة اليمينية التي ترى في القوة العسكرية صمام الأمان الوحيد لاستمرار الدولة.

ومع أن كتاب بيريز يحاول أن يُظهر إسرائيل كقوة سلام إقليمي، إلا أنه، عملياً، يُبقي على جوهر الرؤية الصهيونية التي تتجاهل الحقوق السياسية للفلسطينيين، وتُقزّم قضيتهم إلى مستوى تحسين المعيشة وخلق فرص العمل، دون أي التزام واضح بحل سياسي عادل. وهو ما يتقاطع، بشكل ساخر، مع رؤية نتنياهو الذي يُسقط عن الفلسطينيين أصلاً أي توصيف كشعب صاحب قضية، ويرى فيهم مجرد إزعاج أمني يمكن احتواؤه أو ضربه أو تجاوزه.

الأكثر إثارة في المقارنة بين المشروعين أن كليهما، رغم تناقض لغتهما، يهدف في النهاية إلى أمر واحد: تثبيت إسرائيل كقوة مركزية في الشرق الأوسط، لكن بينما يحلم بيريز بإسرائيل “المركز الاقتصادي والتكنولوجي”، يرى نتنياهو إسرائيل باعتبارها “الحصن المتفوّق عسكرياً”، وكلاهما يُدرك أن طريق البقاء والهيمنة لا تمر فقط عبر القوة العسكرية أو الاقتصاد وحدهما، بل بمزيج محسوب من الاثنين، يتبدّل ميزانه وفق المتغيرات السياسية والإقليمية.

السؤال الأخطر اليوم، بعد مرور عقود على صدور الكتابين، هو:

ـ  أي المشروعين بات أقرب إلى تمثيل عقل إسرائيل الحقيقي؟

 واقع الحال يقول إن عقل إسرائيل انزاح تدريجياً نحو سردية نتنياهو، حيث صعدت اليمين القومي، وتراجعت أصوات الليبرالية، وابتلعت لغة الأمن خطاب الاقتصاد، في ظل انسداد الأفق السياسي للقضية الفلسطينية، وتصاعد المخاوف من التهديدات الإقليمية، ونجاح نتنياهو المتكرر في تعبئة الشارع الإسرائيلي خلف مشروعه الذي يجمع بين العداء الأيديولوجي للخصوم، والرهان البراغماتي على التطبيع مع بعض دول المنطقة.

ومع ذلك، لا تزال ملامح مشروع بيريز تُطل برأسها بين الحين والآخر، لا سيما مع توسع مشاريع الطاقة الإقليمية، واتفاقيات التعاون التكنولوجي، والاندماج الاقتصادي الذي روجت له اتفاقيات إبراهام. غير أن هذا الوجه الليبرالي لإسرائيل، إن صح التعبير، بقي حتى اللحظة جزءاً من تكتيك سياسي أكثر منه خياراً استراتيجيّاً متجذّراً في البنية السياسية الإسرائيلية.

في النهاية، يمكن القول إن كتاب بيريز “الشرق الأوسط الجديد” وكتاب نتنياهو “مكان تحت الشمس”، يُشكّلان معاً وجهين لمعادلة معقدة، تتأرجح فيها إسرائيل بين الحلم بالتطبيع الاقتصادي والسيطرة الناعمة، وبين التمسك بالقوة والهيمنة الصلبة. لكن الواقع السياسي، والاتجاهات الشعبية، وصعود اليمين، ترجّح كفة خطاب نتنياهو في المرحلة الحالية، ليبدو مشروعه، رغم قسوته الظاهرة، هو الذي يُعبّر أكثر عن عقل إسرائيل المستقبلي في ظل بيئة إقليمية مضطربة، وصراع لم تُكتب فصوله الأخيرة بعد.

Exit mobile version