مرصد مينا
تشهد مدينة بيروت ملامح تقسيم، وهي التي شطرتها الحرب الأهلية إلى نصفين (شرقي وغربي) خلال القرن الماضي (1975 -1990)، تشهد بالفعل واقع أمن ذاتي قائم في أماكن نفوذ “حزب الله” وسيطرته في الضاحية الجنوبية بحيث يسير دورياته الأمنية الخاصة، وينصب حواجز متنقلة ويدقق في هويات المارة، ويتدخل في تحركات الأجهزة الأمنية فيها، فيمنعها أو يوجهها، ويمنع الصحفيين من التحرك فيها دون إذن وتحقيق مسبق. فإن مشهداً جديداً خرج إلى العلن مؤخراً أثار مخاوف انضمام منطقة الأشرفية، ذات الأغلبية المسيحية، إلى تلك الظاهرة، وذلك بعد إطلاق مبادرة حراسة أهلية – أمنية للمنطقة، طرحت الكثير من الاستفهامات والالتباسات خلال الأيام الماضية.
الملائكة الحراس
الملائكة الحراس هي التسمية التي أطلقتها جمعية “أشرفية 2020” التي تعود للنائب نديم الجميل، على مجموعة من 120 عنصراً، خلال إعلانها في السابع من نوفمبر الماضي، عن إطلاق مبادرة حراسة ليلية لأحياء وشوارع منطقة الأشرفية في بيروت الشرقية وذلك، بناء على ما وصفته بـ “طلبات المواطنين المتكررة” منها بضمان الهدوء والسكينة في أحياء المنطقة، في ظل انعدام الأمن، وانتشار السرقة والنشالين وعمليات السطو وغيرها.
على هذا الأساس، بحسب موقع الحرة، أعلنت الجمعية عن تعاقدها مع شركة الأمن A.M.N “لإدارة جميع الخدمات اللوجستية وضمان رفاهية السكان”، على حد قولها، حيث قامت بنشر شبان يلبسون سترات تحمل شعاري شركة الأمن والجمعية قالت إنهم سيعملون “كملائكة حراس” على السكان، من الساعة 18:00 حتى 06:00 صباحاً، بالتنسيق والتعاون الكامل مع الجيش، وقوى الأمن وبلدية بيروت.
لا يحملون السلاح، بل مصابيح ليلية وعصي للحراسة، وفق ما يؤكد أمين سر جمعية “أشرفية 2020” والمشرف على هذه المبادرة، أكرم نعمة، يجوبون الشوارع ليلا، ويتواصلون مع الأجهزة الأمنية من مخابرات جيش وقوى أمن داخلي، عند الاشتباه بأي تحرك غريب أو أي سرقة.
المرحلة الأولى من هذا المشروع تشمل أحياء “السوديكو والتباريس وفرن الحايك والحيمري والحكمة” على أن يطلق على 3 مراحل ليغطي كامل منطقة الأشرفية في غضون مئة يوم. وفق ما يقول المعنيون بالمبادرة.
نعمة أوضح بحسب المصدر نفسه: “نحن في الأشرفية منذ سنة وحتى اليوم، يسجل بشكل يومي ومتكرر حوادث سرقة لكابلات كهربائية ومكيفات وسيارات ودراجات نارية وعمليات تشليح ونشل وتسول، ولم يعد هناك حديث لأبناء منطقة الأشرفية إلا ما يتعرضون له من سرقات واعتداءات، وفي الوقت نفسه كل العالم يعرف وضع السلطات اللبنانية وقدراتها، لا عتاد ولا عديد ولا أجهزة أمنية ولا قضاء ولا أي سلك أو جهاز فاعل، ماذا نفعل؟ كيف نحمي عائلاتنا وأهلنا؟”.
أمن ذاتي؟
من جهة أخرى ترفض معظم فعاليات منطقة الأشرفية، ونوابها من أحزاب مختلفة، أن يصفوا ما يجري في منطقتهم على أنه أمن ذاتي، يشددون على ذلك أكثر من مرة في حديثهم، خاصة وأن الأحزاب المسيحية في لبنان عموماً، والأحزاب النافذة والأكثر تمثيلاً في الأشرفية (القوات اللبنانية وحزب الكتائب) على وجه الخصوص كانوا من أبرز المعارضين لمظاهر الأمن الذاتي التي شهدها لبنان في تاريخه السياسي الحديث، منذ العام 2005، لاسيما تلك التي كان يقيمها تنظيم “حزب الله” في مناطقه.
“نحن لا نسميها أمن ذاتي، بل هذا من أقل الواجبات التي نؤمنها”، يقول النائب نديم الجميل، ويضيف “غدا إن عجزت السلطات عن رفع النفايات من منطقة الأشرفية سنقوم نحن برفعها، وفي النهاية لسنا مستعدين للعيش بذل ولا بقهر ولا بخوف”.
وعما إذا كانت الخطوة تسليم بغياب السلطات عن دورها يشير الجميل إلى أن المشكلة أن السلطات “فعلا غائبة ولا تستطيع تأمين الحد الأدنى من حاجات الناس، بدءاً من الكهرباء وصولاً إلى الأمن والسلامة. نحن بالتأكيد نطالب بالدولة وحضورها ولازلنا مع خيارها، ولكن في ظل عجزها الحقيقي نتحرك، ومعظم البلاد اليوم تعمل بالمبادرات الفردية”.
من جهته يرى نعمة أن هذه المبادرة بحد ذاتها من يمنع الأمن الذاتي، ويتابع “بحضورنا ووجودنا اليوم بالدور الذي نقوم به بالفعل نمنع الأمن الذاتي، فعلى الأقل نحن أشخاص معروفين مكشوفي الوجوه عناويننا وأرقامنا معروفة نعمل عبر شركة أمن مرخصة، لا نعمل بالخفاء وليس لدينا أي أجندة”.
ويؤكد في بحسب “الحرة” أنه لو لم تكن هذه المجموعة موجودة “سيضطر كل شخص إلى حراسة منزله ومؤسسته وكل الناس في لبنان اليوم يملكون سلاحاً وهذا أمر واقع، ماذا لو حصل هذا السيناريو وشهدنا أحداث إطلاق نار أو قتل على خلفية سرقات أو مظاهر مسلحة للسبب نفسه؟ هنا نكون وقعنا في الخطر ووصلنا إلى الأمن الذاتي”.
وفيما اتُهمت القوات اللبنانية برعاية هذه المجموعة والاستفادة منها لإرساء واقع أمن ذاتي يشدد رئيس جهاز الإعلام والتواصل في حزب القوات اللبنانية، شارل جبور، على عدم وجود أي علاقة للقوات اللبنانية بهذا الأمر مشيراً إلى تضخيم كبير لهذه المسألة، “مرده إلى أن من يخطف قرار الشرعية في لبنان، وهو حزب الله، يمسك مناطقه عسكرياً ومن مختلف النواحي، من خلال المربعات الأمنية، ويخطف من خلفها البلد برمته، وبالتالي من مصلحته التركيز على أوضاع معينة في مناطق غيره لحرف الأنظار عن واقعه”، مضيفا: “لا أحد في الأشرفية أو في مناطق أخرى في وارد الذهاب إلى أمن ذاتي في ظل الثقة المطلقة بالجيش اللبناني والقوى الأمنية الرسمية، الأمن الذاتي الوحيد الموجود في لبنان هو الأمن الذاتي لحزب الله، وخلاف ذلك لا يوجد أي أمن ذاتي”.
جبور لفت إلى أن “السلطات اللبنانية معنية بمحاسبة كل من يخالف القانون ويخل بالأمن في هذا المكان، وليس التركيز على ظواهر نتجت عن الواقع المرير الذي يعيشه البلد بسبب حزب الله وفريقه السياسي، وهنا مكان الخلل الذي يجب التصويب عليه، وكلما تفلتت الأمور أكثر ستزداد مظاهر الأمن الذاتي أكثر بشكل عام”.
لماذا الآن؟
وعلى الرغم من أن المبادرة أتمت نحو شهر ونصف الشهر، إلا أن عودة الجدل حولها، ترافق مع إشكال شهدته منطقة الأشرفية، في ساحة ساسين، بين مجموعة شبان من خارج المنطقة كانوا في جولة دراجات نارية في شوارع بيروت احتفالاً بتأهل منتخب المغرب إلى الدور نصف النهائي من كأس العالم، حيث ما لبث أن تحول الاحتفال إلى إطلاق شعارات ذات طابع طائفي أثارت استفزازاً في الأشرفية ذات الأغلبية المسيحية ما أدى إلى إشكال كبير وتضارب قبل تدخل القوى الأمنية لفضه.
هذا الإشكال أعاد طرح قضية الأمن الذاتي في الأشرفية، لاسيما بعد تنامي نشاط مجموعة “جنود الرب”، المتشددة دينياً والتي تتخذ من الأشرفية مقراً ومنطلقاً، حيث جرى الربط أيضاً بين مبادرة الحراسة وهذه المجموعة، حيث وقع التباس بين الطرفين، وجرى اعتبار أنهم مجموعة واحدة، وهو ما ينفيه القيمون على المجموعتين، حيث كان لموقع “الحرة” تحقيق مفصل حول ظاهرة “جنود الرب”.
من هم جنود الرب ؟
أثار ظهور مجموعة منظمة في شوارع منطقة الأشرفية بسيوف وصلبان مسننة ولباس أسود موحد، وعلى وقع التراتيل الدينية والصلوات، أثار هذا قلقاً كبيراً وجدلاً لا حدود له في البلاد المنقسمة على نفسها سياسياً وطائفياً، تاركين أسئلة مفتوحة حول هويتهم وميولهم وأفكارهم ومعتقداتهم وأهدافهم والجهات الداعمة لهم، فيما الأجوبة عنهم ضئيلة جداً، ما زاد من حالة الغموض والارتياب العام.
في هذا السياق يتحدى نعمة إيجاد أي علاقة بين مجموعات الحراسة وبين مجموعة جنود الرب، ويعلن استعداده للاستقالة من دوره في حال إثبات وجود أي عنصر من جنود الرب ضمن مجموعات الحراسة، “كل يوم يسألونني 100 مرة عن علاقة جنود الرب بنا، وننفي ونوضح أن لا علاقة أبداً”.
نعمة أضاف “هناك توجيهات صارمة وواضحة للعناصر بأنه ممنوع حتى أن يسأل عن اسم أحد أو يوقف أحداً في الشارع، كل مهمته تقتصر على المراقبة والرصد والاتصال بالقوى الأمنية عند أي اشتباه أو طارئ، ولا علاقة لهم بأي بعد سياسي أو مواجهات سياسية. الخطأ الأول من قبل هؤلاء الشبان هو الأخير وأي مخالفة للتعليمات تعرض الشخص المخالف لخسارة العمل والخروج من المجموعة”.
من ناحيته يرى الجميل أن اثارة الضجة حول هذا الأمر من جديد، بعدما مر أكثر من شهر على انطلاقة هذه المجموعة، “يهدف إلى التغطية على ما جرى جنوب لبنان قبل أيام، لناحية الاعتداء على دورية اليونيفيل الذي أودى بحياة جندي من الكتيبة الأيرلندية العاملة جنوب لبنان.
ويضيف “يريدون حرف الأنظار ويحاولون خلق بلبلة وتهويل وتهديد وتشويه لصورة المناطق المسيحية، في حين أن هذه المبادرة من أرقى وأنقى المبادرات، وهي حاجة أساسية وضرورية لأهالي الأشرفية، والبرهان على ذلك أنها تركت طمأنة كبيرة في نفوس السكان والتجار في المنطقة وتركت أثراً بالغاً”.
من أين التمويل؟
ومن بين أبرز الاستفهامات التي طرحت، تمحورت حول الجهة الممولة وآلية تمويل هذه المجموعة التي ستكلف نحو 700 ألف دولار في السنة، وفق ما يؤكد نعمة، وسرت اتهامات لشخصيات وجهات حزبية، أبرزها أنطون الصحناوي، وهو متمول وصاحب مصرف وله نفوذ سياسي كبير في منطقة الأشرفية.
ويشرح نعمة أن تمويل المبادرة مؤمّن لمدة شهرين فقط، لافتا إلى أن الجمعيّة لا تدفع مباشرة للشباب، بل ندفع لشركة الأمن التي تتولى دفع الرواتب. أما مصادر التمويل فمؤمّنة من خلال المجتمع المحلي وأهل الأشرفية، مضيفا “نعم نحن ندفع رواتب ولا يمكن لأحد أن يعمل اليوم دون مقابل وأجر، من جهة نحرص على الأمن، ومن جهة أخرى نؤمن بعض الوظائف للعاطلين عن العمل في المنطقة”.
من ناحيته الجميل، يذكر أنه ومنذ اليوم الأول “قلنا إن هذه المبادرة مبنية على التبرعات من التجار وأصحاب المؤسسات التجارية والسياحية وبمساعدة الأهالي، وسنتمكن من الاستقرار والاستمرار إذا ما تبرع الأهالي والتجار لمساندتنا ودعم المبادرة، ويقف هذا المشروع في حال لم يحب الأهالي هذه المبادرة ولم يدعموها”.
ولا ينكر الجميل أن آل الصحناوي جزء من داعمي هذه المبادرة، “وليس بالضرورة الدعم المادي فقط، هناك أنطون وهناك غيره من النيرين في المجتمع الذين فهموا أهمية هذه المبادرة، ومعهم كثير من رجال الأعمال والمغتربين الداعمين أيضا”.
السلطات غائبة.. و”غير موافقة”
وعن اتهامهم باستخدام العنف أو السلاح، يرد نعمة “كل ما نحمله كشافات ضوئية وعصي، وهذا ما يفعله ويحمله أي ناطور مبنى، واتحدى أحد أن يوثق أو يثبت ظهور أي سلاح أو استخدام للعنف من قبل هؤلاء الشبان، الذين يستحقون نيشان تقدير من القوى الأمنية، بعدما باتوا نحو 200 مواطن يعملون مخبرين لديها في شوارع الأشرفية”.
“تخيل أحيانا يلقى القبض على سارقين تقول لهم القوى الأمنية ليس لدينا مكان لاحتجازه أو أن المدعي العام معتكف عن العمل أو نائم، ماذا نفعل في هذه الحال، وصل الوضع الأمني إلى مراحل مزرية وفالتة”، بحسب نعمة.
وتحدثت تقارير إعلامية عن تعذر حصول المبادرة على التراخيص اللازمة وبالتالي فإن عملها يتم بالأمر الواقع وليس بإذن من السلطات اللبنانية، رغم التنسيق الذي يتحدث عنه القيمون على المبادرة، بين القوى الأمنية وشركة الأمن المرخصة.
إلا أن قوى الأمن أصدرت بياناً متعلقاً بآخر التطورات التي شهدتها منطقة الأشرفية، تطرق إلى ظاهرة الأمن الذاتي، معبراً عن رفض قوى الأمن بشكل قاطع، وأن أي مظهر من مظاهر الأمن الذاتي مهما كانت أسبابه، وكل ما هو أمن ذاتي بالمبدأ يتنافى مع عمل قوى الأمن نرفضه رفضاً تاماً ونتابعه أمنياً”.
بدوره يوضح الجميل أنه ما من ترخيص لعمل هذه الشركة الأمنية على الأراضي اللبنانية، ويضيف “أظن أيضا أن هذا العمل ممنوع في القانون، ولكن في المقابل لدينا اليوم 45 نقطة ينتشر الشبان فيها، هناك ترخيص خاص للمباني والمنازل التي ينتشرون في محيطها، ولدينا عقود ممضية من أصحاب هذه المباني والمنازل تسمح لنا بتأمين الحماية لها”.
الجميل شدد: “لسنا في وارد الحلول مكان الدولة، ولكن حين تقصر بقيامها بواجباتها من واجبنا أن نملأ هذا الفراغ، لسنا السبب اليوم بكون السلطات اللبنانية تفقد دورها وحضورها والثقة بها من قبل المواطنين. لأن الدولة لم تعد قادرة على إضاءة شوارعها نحن مضطرين لإضاءة شوارعنا، ولأنها عاجزة عن تأمين السلام والاستقرار لمواطنيها نحاول اليوم نحن تأمين هذا الاستقرار”.
فيما يسأل نعمة في ظل عدم وجود موظف استعلامات يحضر في بلدية بيروت ليجيب على اتصالات الناس أصلا، بأي حق يسألون ويعترضون؟ كل يوم كانت تصل عشرات الشكاوى إلى البلدية ولا تتحرك بسبب نقص العديد وبسبب نقص الإمكانات، لا يريدون العمل ويمنعون غيرهم أيضاً عن العمل؟”.
ويضيف “برأيك هل نحن نريد أن نجلس ليلاً في الشوارع أو في منازلنا مع أهلنا وعائلاتنا؟ ما عملنا على الطرقات، أفضل ألف مرة أن أنام في الليل مطمئن البال، بدلاً من السهر حتى الفجر، لكن هذا الدور الذي نقوم به بات حاجة ملحة”.
من جهته يختم جبور بالتأكيد على أن المهم الآن “أن تبقى هذه المجموعات ضمن القانون ولا تقلص من دور السلطات الرسمية الذي يبقى هو الأساس، ولا يجب أن يصبح الاتكال على هذه المبادرات بشكل أساسي، لذلك يجب الإسراع اليوم باستعادة الدولة لحضورها وانتخاب رئيس جمهورية، لإعادة الانتظام إلى المؤسسات، ولكن لا يمكن القول للناس: لا تحموا أنفسكم وممتلكاتكم في ظل كل هذا الفلتان”.