قبل زمن ليس بالبعيد، كان علي اكبر ولايتي مستشار المرشد الأعلى علي خامنئي، قد قال بأن “إيران حالت دون سقوط النظام السوري”، وعقب قوله هذا شنّ الإعلام الرسمي السوري هجومًا تجاوز الحذر على ولايتي.
كثيرون اعتبروا الهجوم على ولايتي كما لو انه سيحمل عواقبه، غير أن ثمة ماكان يمشي من تحت الموائد لامن فوقها.
ماكان تحت الموائد، هو ما نراه اليوم والذي يمكن أن يحمل عنوان “تعويم الخائب”.
أما الخائب فبلا شك هو بشار الأسد، وإذا ماطرح السؤال:
ـ ومن سيعوّمه؟
فقد باتت الصيغة جلية اليوم.
في تقرير بالغ الأهمية لمارتين تشولوف، وهو مراسل صحيفة الغارديان البريطانية، بدأ تشولوف بالتساؤل التالي:” هل للنظام القائم مكان في المعادلة السورية الجديدة التي أطرافها روسيا وإسرائيل والولايات المتحدة؟”
كانت إجابة الرجل بـ : “نعم”.
أما تلك الـ “نعم”، فقد وردت بعد أن أوضح مراسل الغارديان بأن بشار الأسد قرر الانضمام الى الثلاثي الذي قرر رسم مستقبل سوريا وذلك حماية لنفسه ولضمان البقاء في دمشق، علما أن مصير الرجل سيتحدد في ضوء القدرة على التزام الشروط الإسرائيلية.
الثلاثي الذي قصدته الغارديان كان “الولايات المتحدة، روسيا، واسرائيل”، وذلك وفق شروط في مقدّم هذه الشروط الخروج الإيراني من الأراضي السورية كلّها وليس من الجنوب السوري فقط. فوق ذلك، سيكون عليه التزام اتفاق فكّ الاشتباك في الجولان الذي وقّع في العام 1974 التزاما حرفيا.
كلام كهذا سيتضمن “الطلاق” مع إيران، فكيف لهكذا طلاق أن يكون فيما إيران لعبت الدور المحوري، مباشرة وعبر ميليشياتها المذهبية، مثل “حزب الله”، في إبقاء رئيس النظام في دمشق وذلك بين العامين 2011 و2015، وعندما وجدت أنّها عاجزة عن متابعة مهمتها، ذهب الجنرال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني إلى موسكو. استنجد بالروس مباشرة بعد تقدّم المعارضة في اتجاه دمشق من جهة وفي اتجاه الساحل السوري من جهة أخرى.
تدخل الروس، وكان للتدخل الروسي المباشر عبر سلاح الجو، الذي تمركز في قاعدة حميميم قرب اللاذقية، في أواخر أيلول – سبتمبر 2015، الدور الأكبر في جعل بشّار قادرا على البقاء في دمشق، وليس مستغربا أن يتصرف بوتين بالطريقة التي تصرّف بها في ضوء التطلعات الروسية القديمة إلى موطئ ثابت في المياه الدافئة. المستغرب أن تعتقد إيران أن روسيا جمعية خيرية وأنّها ستكون قادرة على الاستفادة من تدخل قاذفات “سوخوي” لتحقيق مآرب خاصة بها في سوريا. لم تأخذ إيران في الاعتبار أن روسيا لم تكن لتتمكن من حماية بشّار الأسد في دمشق من دون التنسيق الكامل مع إسرائيل.
بالنتيجة، استطاع الروس حماية بشار الأسد من السقوط، غير أن ثمة تناقض سيظهر لاحقًا وهذا التناقض سيتبين كلّيا بين إيران وإسرائيل في سوريا، وقد صار على بشّار الأسد الاختيار.
ما حققته روسيا في الأشهر القليلة الماضية ليس سهلا. استطاعت تفادي حرب مباشرة إسرائيلية – إيرانية في سوريا. كان يمكن لهذه الحرب أن تمتد إلى لبنان في حال إصرار إيران على أن يفتح “حزب الله” جبهة الجنوب.
أقنعت روسيا إسرائيل بمتابعة ضرباتها لكل المواقع العسكرية الإيرانية في سوريا ولكن من دون الذهاب إلى حرب شاملة. في المقابل، لم تستطع روسيا إقناع إيران كلّيا بأن لا خيار آخر لديها غير الانسحاب من الأراضي السورية، خصوصا أنّ مهمة بقاء بشّار الأسد في دمشق لتنفيذ مهمات معيّنة صارت مهمّة إسرائيلية.
مراسل الغارديان يورد معلومات على غاية من الأهمية، ومن هذه المعلومات، أن كان على رئيس النظام السوري أن يختار في نهاية المطاف.
ما الذي سيختاره؟
سيختار ما بين إسرائيل أم إيران؟
حاول بشار الأسد تفادي هذه الخطوة وتأخيرها قدر الإمكان، خصوصا أنّ عواطفه إيرانية وإعجابه بـ”حزب الله”، الذي فعل كلّ ما فعله بلبنان واللبنانيين، لا حدود له. هذا الإعجاب المنقطع النظير بالميليشيا المذهبية التابعة لإيران في لبنان موجود منذ ما قبل خلافة بشّار الأسد لوالده .
من بين ما يدعو إلى التأكيد أن بشّار الأسد سعى إلى استرضاء إيران، قدر الإمكان طبعا، المؤتمر الصحافي الذي عقده وزير خارجيته وليد المعلّم قبل وفاه المعلم بأسابيع وأعطى فيه “شرعية” للوجود العسكري الإيراني في سوريا.
لم يكتف المعلّم، وهو شخص مغلوب على أمره، بذلك. انتقد أيضا الجهود الروسية الهادفة إلى إعداد دستور سوري جديد. كذلك، نفى وجود اتفاق روسي – إسرائيلي في شأن الجنوب السوري. وقد تبيّن مع مرور الوقت أن هذا الاتفاق روسي- أميركي – إسرائيلي ولم يجد بشّار الأسد بدّا من الانضمام إليه.
واليوم لم يعد سرّا أن هناك دورا إسرائيليا علنيا في تعويم بشّار الأسد.
السؤال هل يستطيع رئيس النظام السوري تنفيذ المطلوب من الأطراف الثلاثة المصرّة على العودة إلى اتفاق فكّ الاشتباك للعام 1974؟
هناك كلام كثير عن تفاهمات في العمق. في أساس هذه التفاهمات دور لبشّار الأسد يقوم على إعادة تأهيله انطلاقا من الجولان. تتذكّر إسرائيل جيدا أن النظام السوري لم يطلق رصاصة واحدة في الجولان منذ توقيع اتفاق فكّ الاشتباك في العام 1974.
لا شيء يمنع إذا، من منطلق هذه التجربة التي عمرها أقلّ بقليل من نصف قرن، من العودة إليها. هذا هو المنطق الإسرائيلي الذي يحظى حاليا بمباركة روسية وأميركية. إنّه منطق متماسك يدعمه قول إسحاق رابين لياسر عرفات في آخر لقاء عقد بينهما عند معبر إريتز “لو تعرفت إليك قبل توقيع اتفاق أوسلو (في خريف العام 1993)، لما كنت وقّعت معك أيّ اتفاق. أنت لم تحترم يوما توقيعك، في حين احترم حافظ الأسد بدقّة متناهية كلّ الاتفاقات التي عقدناها معه، بما في ذلك الاتفاقات الشفهية”.
عقد هذا اللقاء قبل أيام من اغتيال رابين في تل أبيب في الرابع من تشرين الثاني – نوفمبر 1995 وقد اعتبر ياسر عرفات كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي دليلا على “وطنيته” وطلب من أحد مساعديه تسريبه إلى وسائل الإعلام!
لدى البحث في مستقبل سوريا في ضوء الإصرار على العودة إلى اتفاق فك الاشتباك، تظهر أوّلا المشكلة الكامنة في أنّ بشار الأسد ليس حافظ الأسد. الأهمّ من ذلك أن سوريا التي عرفناها تغيّرت جذريا منذ العام 2011. فوق ذلك كلّه ما الذي ستفعله إيران التي استثمرت كلّ هذه المليارات من الدولارات في “سوريا الأسد”؟ هل تعتبر أن كل هذا الاستثمار كان رهانا على حلم يقظة اسمه “الهلال الفارسي”.
وضعت روسيا مع إسرائيل والولايات المتحدة الخطوط العريضة لتسوية في سوريا. من الواضح أن فلاديمير بوتين ودونالد ترامب استطاعا التفاهم على الخطوط العريضة هذه في قمتهما الأخيرة في هلسنكي. تظل الحلقتان الضائعتان بشّار الأسد نفسه وإيران. قوّة الخطوط العريضة في أنّ الروسي يعرف بشّار جيدا. يعرف نقاط ضعفه وأنّه لم يعد يمتلك غير الاعتماد على فلاديمير بوتين.
أمّا إيران، فلا يزال يصعب عليها الرضوخ لما قرره الروسي والأميركي والإسرائيلي في وقت يعرف حكامها جيّدا ما هي النتائج التي ستترتب على الخروج من سوريا وما تعنيه هذه النتائج في طهران نفسها. تعرف طهران أن انهيار النظام السوري بدأ لحظة الاضطرار إلى الخروج من لبنان في نيسان – أبريل 2005 وأن لحظة بداية سقوط نظام الملالي تبدأ لحظة الخروج الإيراني من سوريا.
وهكذا يُسقِط الساقط حليفه ويعوم.