تلك شهادتي.. سامحوني

نبيل الملحم

بكلام لابدّ فيه من المجازفة، ستنتهي حرب غزة إلى “تسوية”، سيعود المتقاتلون إلى خنادقهم محُمّلين بأهازيج النصر، فيما تغصّ المقابر بـ “نصف قتلى”، وتغصّ المنافي فيه إلى بـ “نصف أحياء”.

لن يتغيّر شيء، كل ما سيكون “شيئاً”، هي حسابات “الحانوتي” وقد سجّل في يومياته أعداد القتلى، ولا لزوم للاسم الثلاثي، ذلك أن ثالث الأجداد كذلك دُفن من دون دليل على قبره.

تلك هي الحكاية، حسابات “الحانوتي”، أما محترفو الحرب فسيعيدون ما قبل حربهم بالتفاصيل إلى ما بعد حربهم، وهكذا تكون الدوّامة وقد امتدت بنا طويلاً يوم ابتدأت حروبنا بنصف حرب، ولا بد أن تستمر بـ “نصف حرب” لنعود إلى ما يختصرونه باللغة العربية بـ “وهكذا دواليك”.

كل ذلك يحدث مع الـ “نصف حروب”، أمّا الحروب المكتملة، فعلى لعنتها لابد وتؤسس لعالم جديد.. ليس أجمل أو أكثر عدالة بالضرورة، قد يكون أكثر سخاماً، غير أنه لا يعيد السخام القديم، وهكذا تكون الحروب أو لا تكون.

تلك حرب غزة، وسأكون قد ارتكبت ما يُخجل إن اعتقدت بأنها اقتحمت المشهد على هذا النحو لرزمة من الأسباب، من بينها:

قد يكون تحقيق وظيفة للسلاح أحدها، فعلى صاحب الدكان أن يعثر على سوق لمقتنياته، أمّا الأعمق فهو رعاية السلاح ومرجعيته، وبالاسم الصريح لابد لن يخلو من إيران، وستأتي في مرتبة لاحقة مسائل القيم التي لا تأخذ مساحة من تاريخ حماس من مثل “حرية”، ذلك أن هاجس “الحرية” يستوجب بما لا يحتمل النقاش، رفع سطوة الرجل على المرأة، وعند حماس مازال “الرجال قوّامون على النساء”، حتى لو كان القوّامون  كسحاء.

ماذا كانت النتيجة:

ـ سيسجل دون تردد عرضاً عسكريا، مُدهِش،  مُتقن، بالغ الذكاء، ومعه سيسجل خسائر هائلة لإسرائيل.

نقول خسائر هائلة، من بينها موت الأفراد، اهتزاز الثقة بمفهوم المكان، ومع هذا وذاك هزّة لا تساويها هزّة لثقة ناسهم بأجهزتها وتاريخ التفوّق كما فائض القوّة باعتباره الصيغة الخاسرة بنتائجها والآسرة بممارستها.

كل ذلك سيحصل، ولكن ما سيكون مقابله؟ سيكون  الآتي:

ـ شدّ العصب اليهودي، بما يُعيد أساطير الموت “في المكان المُغلَق” وصولاً لأسطورة الماسادا، وبالعربي “مسعدة”.

ـ انتصار ثلثي العالم / الأقوياء / إليها ومناصرتها.

ـ نقول مناصرتها؟

لا، ظهيرة أمس كان المؤتمر الصحفي لـ جو بايدن، بثته المحطات من تل أبيب، ماحكاه عن إسرائيل، دون أي تردد يتجاوز أحلام تيودور هرتزل، قالها بالحرف “لو لم يكن هنالك دولة إسرائيل لخلقناها”.. لقد تخطت القصة التضامن / التحالف / المساندة، ما يعني أن البوارج الأمريكانية لم تأت المتوسط لتتذوق النبيذ الإسرائيلي.

ـ إذن المسألة جد.

ولأنها على هذا النحو من الجدية فليس ثمة أمام أمريكا سوى خيارين:

ـ إما فتح جبهة ممتدة في الشرق الأوسط، فيما “العسكر الامريكان” مشغولون بأوكرانيا، ورجالها منشغلين  بـ “وول ستريت” وبالدمى الصينية المنافسة لكاديلاك وفورد.

ستكون جبهة الشرق الأوسط بالغة الثقل على عمره، أقصد جو بايدن،  فقد تخطى الرجل الثمانين، ونهاية العمر تعجز عن الخطوة الواسعة / أيّ كانت واثقة/.

لهذا فتح باب “التسوية”، بل رسم ملمحها النهائي:

ـ أسرى مقابل أسرى.

ما يعني فتح نافذة في “الباب العالي” الذي رسمه لإسرائيل.

ـ الإسرائيليون سيقبلون بالصفقة على أن لا تخلو الصفقة من إزالة آثار الصفعة، وهذا ممكن فالتاريخ طالما تسامح مع الهزائم الصغيرة التي تعني “نصف هزيمة”، والأهم أن “نصف الهزيمة” لا تأتي سوى برفقة “نصف تسوية”، ولقد عشنا أنصاف التسويات منذ الحرب الأولى وقد أطلقت بنادق أجدادنا على حاملها.

تلك حقيقة كاملة عن الـ “النصف”، نصف حرب، نصف هزيمة، وذلك أسوأ خيارات الأمم، فلا هي بـ “القديسة” ولا هي بـ “شرموطة”، هي نصف من هذه ومن تلك، ولهذا لن تحتمل صرامة ميزان الشرموطة، ولا ترفّع القديسة على الاحمال والميزان، وبالنتيجة سيعود العرب إلى ما كانوا.. الكثير من الأهازيج والقليل من الموسيقى.

ستكون “نصف حرب”، حتى هذه اللحظة هو ذا حال المشهد، والدليل أن سلاح حزب الله مازال في الخزائن، وخطاباته دائمة التجوال، أما إيران، والتي افتُرض على الدوام أنها “أم الصبي” فهي الرابحة في الحالين.. في كل الحالات، حيث تذهب البقرة فالعجل لها، سيكون الحال كذلك فلم يُقتَل منها حتى اللحظة في هذه الحرب، حارس من حراسات الله المعهودة بالبسالة، وحتماً، لن يُعاني الولي الفقيه من بعدها عقدة أوديب، فهو لا أم، ولا أب، هو الأم والأب مجتمعين بكائن اسمه:

ـ ظل الله على الأرض.

يطوّل الله، يقصّر الله، حسب موقعه من الشمس.

لهذا بدا الله قصيراً وقصيراً.

الله لا ينمو في الظلمة.

Exit mobile version