مرصد مينا – اقتصاد
حسب الوثائق الرسمية الروسية، كل ما يملكه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هو شقة صغيرة وسيارتان، لكن معظم الخبراء يقدرون ثروة بوتين بمليارات الدولارات مملوكة سراً من قبل دائرة من المقربين أو من يُطلق عليهم “الأوليغارشية” الروسية، بحسب تقرير لصحيفة لوس أنجلوس تايمز.
وقدرت منظمة الشفافية الدولية أن روسيين تربطهم صلات بالكرملين يملكون عقارات بريطانية بقيمة ملياري دولار، والكثير منها في لندن، بالإضافة إلى القصور واليخوت الفائقة والطائرات الخاصة.
قبل أسابيع قليلة من غزو بوتين لأوكرانيا، شوهد اليخت الفاخر “Graceful” البالغ طوله 265 قدماً وهو يغادر ألمانيا فجأة متوجهاً إلى روسيا. ويعتقد المحللون أن اليخت مملوك لبوتين، كما أكد معارضون أن بوتين يملك قصرا ضخما تقدر قيمته بنحو 1.3 مليار دولار على البحر الأسود.
وتستهدف العقوبات الأميركية والأوروبية قائمة كبيرة من الأشخاص المقربون من الرئيس الروسي بوتين. كما خرجت سويسرا عن تقليدها الحيادي بالانضمام إلى تجميد أصول رئيس الوزراء الروسي ووزير الخارجية، بالإضافة إلى عشرات الأفراد الذين استهدفهم الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي.
العقوبات ستنمع هؤلاء الأشخاص من الوصول إلى الأصول والمعاملات المالية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا.
وقال المدعي العام في الولايات المتحدة، ميريك غارلاند: “لن ندخر وسعا في جهودنا للتحقيق، واعتقال ومحاكمة أولئك الذين مكنت أفعالهم الإجرامية الحكومة الروسية من مواصلة هذه الحرب الظالمة”.
وأكد الخبراء أن ليس الهدف من العقوبات جعل بوتين فقيرا بل تعطيل حياة الدائرة المقربة منه بدرجة كافية حتى يضغطوا عليه لتهدئة سلوكه ووقف الحرب.
لكن ليس من الواضح ما إذا كانت الأوليغارشية ستجرؤ على مطالبة بوتين بالانسحاب من أوكرانيا، ناهيك عن محاولة عزله من السلطة. ومع ذلك، يقول البعض إن الأوليغارشية قد اعتادوا على الاستمتاع بأسلوب حياة فخم قد لا يرغبون في التخلي عنه.
موقع “فوربس” طرح في وقت سابق ثلاث نظريات الأولى حول ثروة بوتين: نموذج خودوركوفسكي، كان أحد رجال الأعمال الروس الصاعدين من المنتمين للقلة الحاكمة، يُدعى ميخائيل خودوركوفسكي، وفي ذلك الوقت، شكلت شركته “يوكوس” 17% من إنتاج النفط الروسي، وكان يُنظر إليها على أنها تتمتع بنفوذ كبير في الكرملين، وكانت ثروته الشخصية 3.7 مليار دولار، ويصنف أغنى رجل في روسيا، وكان أحد موظفيه السابقين وزيرًا للوقود والطاقة. وكان أحد موظفيه الآخرين نائبًا لرئيس أركان بوتين آنذاك.
وتضاعفت ثروة خودوركوفسكي خلال العام التالي. بحلول أكتوبر/ تشرين الأول 2003، كان في السجن، وأدين بالاحتيال والتهرب الضريبي (وهو ما نفاه).
لم يكن هناك شك في أن بوتين كان وراء اعتقاله وتجميد ثروته وتفكك شركته في نهاية المطاف. كان مصير خودوركوفسكي درسًا قويًا لأفراد القلة الحاكمة الآخرين. ومع ذلك، يبقى السؤال: ما مقدار ثروة خودوركوفسكي التي أخذها بوتين لنفسه؟
بيل براودر هو الشخص الوحيد الذي يتتبّع هذه القصة منذ سنوات، وهو ممول أمريكي نفذ الكثير من الأعمال التجارية في روسيا وهو وراء قوانين ماغنيتسكي Magnitsky التي تمكّن الحكومات من فرض عقوبات موجهة على مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان من خلال تجميد أصولهم. يؤكد براودر أنه بعد اعتقل بوتين خودوركوفسكي، فقد أبرم صفقة مع القلة الحاكمة في البلاد.
يقول براودر: “كانت الصفقة: “أعطني 50% من ثروتك وسأسمح لك بالاحتفاظ بـ 50% المتبقية”. ويضيف: “إذا لم تفعل ذلك، فسيأخذ ثروتك كلها ويلقي بك في السجن”.
بناءً على هذه الحسابات، قدّر براودر في عام 2017 أن ثروة بوتين كانت 200 مليار دولار، ما جعله أغنى شخص في العالم في ذلك الوقت. كانت العملية الحسابية التي أجراها براودر بسيطة، إذ جمع صافي ثروات جميع أفراد القلة الحاكمة في روسيا وقسمها على اثنين.
أكد بيوتر أفين – الذي يرأس أكبر بنك للقطاع الخاص في روسيا، والذي تقدّر فوربس ثروته بـ 4.8 مليار دولار – هذه النظرية عندما أخبر روبرت مولر – المدير السابق لمكتب التحقيقات الاتحادي الأميركي خلال تحقيقه في التدخل الروسي في انتخابات الولايات المتحدة الأميركية عام 2016 – أنه كان أحد 50 رجل أعمال روسيًا يجتمعون بانتظام مع بوتين في الكرملين.
وجاء في تقرير مولر: “قال أفين إنه أخذ هذه الاجتماعات على محمل الجد وفهم أن أي اقتراحات أو انتقادات وجهها بوتين خلال هذه الاجتماعات كانت توجيهات ضمنية، وأنه ستكون هناك عواقب على أفين إذا لم ينفذها”.
النظرية الثانية: نموذج المافيا
سيناريو آخر هو أن ثروة بوتين تأتي من مساعدة دائرته المقربة من الأصدقاء والعائلة على أن يصبحوا أغنياء عبر منحهم عقودًا حكومية أو حصة ملكية في الشركات. في المقابل، تقول النظرية، إنه يحصل على رشاوى نقدية أو حصص في الشركات. من نواحٍ معينة، يبدو الأمر وكأنه هيكل مافيا، حيث يكون الجنود وزعماء العصابات (في هذه الحالة المليارديرات) مدينين بشكل دائم لقائدهم (بوتين). إذ إنهم من يقومون بالعمل القذر، ويأخذ هو قسطًا من المال.
وفقًا للخبير الاقتصادي السويدي، أندرس آسلوند، مؤلف كتاب “رأسمالية المحسوبية في روسيا” (Russia’s Crony Capitalism)، الذي صدر في عام 2019، فقد جنّد بوتين عائلته وأصدقاء الطفولة والحراس الشخصيين وغيرهم للاحتفاظ بأمواله. ويقدّر أن لكل شخص ما بين 500 مليون دولار وملياري دولار وأن صافي ثروته يتراوح بين 100 مليار دولار و130 مليار دولار.
من بين المقربين لبوتين الذين أصبحوا أثرياء للغاية: تلقى شريكه السابق في رياضة الجودو، أركادي روتنبرغ، الذي يبدو أنه لا يزال يلعب معه هوكي الجليد، أكثر من 7 مليارات دولار في عقود حكومية مختلفة في الفترة التي سبقت أولمبياد سوتشي، وهو مبلغ خُصص لكل شيء من محطة لتوليد الكهرباء إلى تطوير منتجعات التزلج. وفي الآونة الأخيرة، نصّب روتنبرغ – الذي يعد شقيقه بوريس وابنه إيغور أيضًا من أصحاب المليارات – نفسه مالكًا لمجمّع ضخم من المباني على ساحل البحر الأسود، والذي أطلق عليه زعيم المعارضة الروسي، أليكسي نافالني، “قصر بوتين”.
ثم هناك كيريل شامالوف، صهر بوتين السابق. بدأ شمالوف، ابن صديق بوتين القديم، الاستفادة من صِلاته العائلية عندما أصبح مستشارًا رئيسيًا في الدائرة القانونية في Gazprombank، إحدى أكبر المؤسسات المالية في روسيا. ولكن الباب فُتح على مصراعيه عندما ذكرت تقارير إعلامية أنه تزوج ابنة بوتين في حفل زفاف سري. (حتى هذه الحقيقة يتردد الناس في تأكيدها).
وبعد فترة وجيزة، اشترى شامالوف حصة 17% في شركة البتروكيماويات Sibur من صديق آخر لبوتين، وهو غينادي تيموشينكو، بعد اقتراض الأموال من Gazprombank، وهي مؤسسة يقدّر آسلوند أنها مسؤولة عن ثلثي ثروة بوتين. أصبح شامالوف مليارديرًا وهو في سن 34 عامًا، بعد ثلاث سنوات من الزواج. غير أنّ الزواج فُسخ في وقت ما في عام 2016 أو 2017، وبحسب ما ورد جُرّد شامالوف من ثروته واضطر إلى بيع حصته في Sibur.
أحد أقرب أصدقاء بوتين، عازف التشيلو الذي يُدعى سيرجي رولدوغين، كان صديقًا للرئيس الروسي عندما كان شابًا في لينينغراد وعرّف بوتين بزوجته السابقة. وردَ اسمه في تحقيق مستندات بنما لعام 2016 بسبب صِلاته بشبكة من الشركات وما لديه لديه من تدفقات نقدية تصل إلى ملياري دولار من وبصفته مالكًا لأصول قيمتها 100 مليون دولار. أخبر رولدوغين صحيفة The Guardian أن مصدر أمواله كان تبرعات رجال أعمال أثرياء لشراء آلات موسيقية للطلاب الفقراء.
يقول آسلوند: “كلما ازددت ثراءً، زاد اعتمادك”. ويضيف: “الثروة لا تمنحك الحرية قطعًا في روسيا. توجد الكثير من الأشياء التي يمكن أن تحدث عندما يكون لديك الكثير جدًا من المال”.
النظرية الثالثة: نموذج التهديد
باختصار، بالنظر إلى عدم وجود أدلة على خلاف ذلك، من الممكن أن يكون لدى بوتين القليل من المال الخاص به ويحب ببساطة أن يعتقد الآخرون أنه يمتلك مقدارًا قليلًا فحسب من المال لأن ذلك يشير إلى القوة.
هذا صحيح بالتأكيد، نظريًا على الأقل. إذ يوضح الإفصاح المالي الرسمي لبوتين، الذي يصدره الكرملين سنويًا، أن دخله لعام 2020 نحو 140 ألف دولار. والأصول الوحيدة التي يمتلكها هي: ثلاث سيارات، ومقطورة، وشقة بمساحة 800 قدم مربعة، ومرآب بمساحة 200 قدم مربعة، فضلًا عن استخدام شقة بمساحة 1600 قدم مربعة ومكانين لوقوف السيارات. ولا توجد أي إشارة إلى مجموعته الضخمة من ساعات المعصم الراقية، أو “قصر بوتين” الذي يُزعم أنه يمتلكه (والذي ينفيه، والمجمّع الذي يقول روتنبرغ إنه يمتلكه)، فضلًا عن المجموعة الضخمة من القصور واليخوت والطائرات التي يستخدمها كزعيم لروسيا.
يستشهد بعض المراقبين بهذه المظاهر الفخمة لقوة الدولة كأمثلة على سبب عدم احتياج بوتين للثروة الشخصية. كتب ليونيد بيرشيدسكي، كاتب العمود في صحيفة Bloomberg Opinion في عام 2013: “لديه الدولة بأكملها تحت تصرفه، ويكفي أن يقرع بوتين أصابعه، وستتنازل الشركات المملوكة للدولة عن الأصول لأصدقائه بأسعار منخفضة للغاية. وبهمسة منه، سيشارك رجال الأعمال الأثرياء من القطاع الخاص في التجديد الفخم لأي مقر من المقرات الرئاسية”.
في نهاية المطاف، قد لا يحتاج بوتين إلى المال، طالما أنه يمتلك المظهر الذي يوحي بامتلاكه المال، والسلطة التي تمنحه المال بخلاف ذلك. وحيث إن بوتين يتوعد ويهدد أوكرانيا، يمكن للمرء أن ينظر إلى هذا النموذج، ويأمل أن يكون في نهاية المطاف، مجرد تهديد فحسب.