مرصد مينا
ليس صدفة أن تحيط الأنظمة العسكرية بإسرائيل، وليس صدفة أن تتحول إسرائيل من دولة ضحايا النازية، إلى دولة التمييز العنصري الصريح باعتبارها آخر دولة دينية في هذا الكوكب، هذا إذا لم نعتبر الفاتيكان دولة، فعلى كلا الجانبين، عسكر مقابل عسكر، ليوطّد العسكر في كل من طرفي الصراع قيم وأساسات “الثكنة”، وبمنطق واحد:
ـ العدو خلف الأسوار.
ما قبل إسرائيل، ومع سوريا المستقلة حديثاً، كان البرلمان السوري، ولابد أنه احترم قيم الحياة الديمقراطية بما جعل البورجوازية الوطنية الممثلة بخالد العظم، تحت سقف قبّة واحد الممثلة بالشيوعية وكان تعبيرها بخالد بكداش.
تلك مرحلة النشوة السورية، وهي مرحلة النسيج والصناعات التحويلية الرائدة، كما مرحلة الإنتاج الزراعي بأعلى معاييره.
استولى الزعيم حسني الزعيم على السلطة لتكون خطوته هي الخطوة الأولى باستيلاء الجيش على السلطة، وكان وصلها عبر اليد الامريكانية، وليس هذا صدفة، ومن بعده استولى العسكر وصولاً لحافظ الأسد ومن قبله طغمة العسكر الممثلة بصلاح جديد ومحمد عمران ومجموع الضباط الذين أعلنوا تأميم الأراضي الزراعية لتنحسر الزراعة و “تتبقرط” الفلاحة، ومن ثم ليستولي الموظف الحكومي على المحراث والإنتاج الزراعي، وهذا ما حدث مع الصناعة، فكانت النتائج حلول الدولة البيرقراطية محل البورجوازية الوطنية وقد هاجرت البلاد، ومن بقي منها، انحسرت حدوده ليتحوّل إلى تابع حكومي وفي قبضة السلطة، وبالنتيجة، أغرق الاقطاع التقليدي ليحل الإقطاع العسكري، كما اندثرت البورجوازية الوطنية لحساب البيرقراط الذي سيتولى إدارة المعمل، فكانت النتيجة إفساد الإدارات الصناعية، وتحوّلها إلى مرتش وواش، وهما المهمتان اللتان سادتا لخمسة عقود من تاريخ البلاد، وتعززا يوماً وراء يوم ما بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة، والكل يعلم أن الأسد الأب وصل الحكم بمباركة إنكليزية فيما الأسد الابن وصلها بمباركة أمريكية، وكلنا يتذكر ذاك الحضن الحميم الذي استقبلت به مادلين اولبرايت بشار الأسد، ليُنصّب حاكماً لسوريا، وليس ذلك بدافع الصدفة، فاليد الامريكية لها شأنها في أنظمة من هذا الطراز، بغض النظر عن شعار “عاشت الصداقة العربية السوفييتية” التي حمل بعث حافظ الأسد رايتها، وقد كان يصلي وراء السوفييت ويأكل على مائدة الأمريكان وقد فوّضوه بمهمتين مفصليتين عبر تاريخه، الأولى هي احتلال لبنان، وباحتلاله اجتث المقاومة الوطنية اللبنانية ومعها رحّل المقاومة الفلسطينية وفكك حاملها ونعني “منظمة التحرير”، ومن ثم تحالف مع الامريكان في مرحلة احتلال العراق وهذا ليس صدفة، فالمؤامرة لا تصنع التاريخ، غير أنها لابد وتكون فعلاً من أفعاله، وهكذا بات الشرق الأدنى ثكنتين:
ـ ثكنة إسرائيلية، كل من فيها إما تحت السلاح وإما احتياطي سلاح.
يقابلها ثكنة سورية / مصرية / أردنية، نقلت جيوشها من الجبهات إلى ساحات المدن لتستولي على الحياة وتُعدِم كل قيم التطلع إلى المستقبل والديمقراطيات وتحت شعار:
ـ تحرير فلسطين.
هذه الأنظمة لم تحرر فلسطين، ولم تبق على دولها، فتفككت الدولة لحساب الثكنة، وأحيطت إسرائيل بالأنظمة الفاسدة، ومن بعد الفساد كان التقسيم السيكولوجي والمذهبي والطائفي، وكان هذا حال سوريا حافظ الأسد، ولبنان حسن نصر الله، وأيّ كان إنكارهما فهو إنكار تكذّبه الوقائع، فالتطرف الديني الذي شهده بلد مثل سوريا، لم يأت من الفراغ أو العبث، فيوم يغلق البرلمان ويُحظّر على الأمّة العمل السياسي او الشراكة في الحكم ستكون النتيجة تعزيز الصومعة على اختلاف أشكالها، وبالنتيجة انتقلت سوريا إلى التطييف، وهو ماعززه نظام حافظ الأسد وقد اشتغل على تحالف الأقليات الفاشل، وهو التحالف الذي دمّره جوع الناس ومصادرة حرياتهم ما أدى إلى انفراط عقد هذا التحالف وإن بقي ثمة ملامح له لابد وهي في قيد الانهيار.
على الجانب الإسرائيلي، كانت الثكنة، ومن نتائجها تلك التظاهرات الهائلة التي تشهدها إسرائيل، والتي تضع الإسرائيليين في خندقين إن لم يتواجها بالسلاح اليوم، فقد يتواجهان بالعصيّ في الغد، فدخل الفرد المرتفع في “دولة الوعد” لا يحقق وعد الناس بالأمان ولا يخفف من وطأة “الغيتو” الذي لابد ويكون سجناً في عالم محيط به ومعاد له، فبات المتشابهان، ونعني إسرائيل ودولة العسكر العربية، متصارعان وقد استكمل أحدهما شروط الآخر، وهذا بالتحديد ماجعل الكلام عن أيّة تسوية سلمية، كلاماً في المُحرّم وعلى الجانبين.
السلام بالنسبة لكليهما يعني الشطب على الدلالة والهوية، فكلا النظامين يستمد مشروعيته من “ديمومة الاشتباك” وإن لم يشتبكا، وفي واقع الحال لم يشتبكا، بدليل أن كلاهما مازال على رأس السلطة.
وجود الأول، يقتضية وجود الثاني.
دلالة الأول بوجود الثاني.
يسقط الأول بسقوط الثاني.
أناشيد الحرب لكليهما ليست سوى لتوطيد:
ـ الثكنة.. ثكنة بمواجهة ثكنة.