كل الترجيحات تميل للقول بـ “هزيمة فلاديمير بوتين”، ليس بسلاح الاوكرانيين وقد شدوا من عصبهم القومي، وإنما باستعادة اوروبا لـ “شدّ عصبها” ما بعد زمن طويل من الاسترخاء اعتقادًا بجدية فوكوياما الذي حكى بنهاية التاريخ، مبشّرًا البشرية بسقوط الانظمة الشمولية إلى الأبد، وهو الامر الذي لم يحدث أقله بصعود بوتين إلى حكم روسيا مصحوبًا بعقيدة قتالية توزعت مابين آسيا الوسطى وبعض من افريقيا، وكان تعبيرها الأقوى في سوريا ومن بعدها اتخذت المحدلة الروسية طريقها إلى أوكرانيا.
العالم كله يتفرج على ما ستؤول اليه القفزة الروسية باتجاه أوكرانيا، ونعني بالعالم هنا، الناس العاديون من الذين يستيقظون صباحًا ويبحثون عن مائدة الافطار فإذا ماوجدوها يتابعون طريقهم إلى البحث عن كسرة خبز، غير أن الحدث الاوكراني، ربما غير الكثير من التقاليد اليومية، فالمطبخ علىى شاشات التلفزة لا في خزائن الغذاء، والعالم هذا، كل العالم باانتظار أي تاريخ جديد سيكتبه فلاديمير بوتين:
ـ التاريخ نحو المقصلة، أم التاريخ نحو امبراطورية جديدة تلغي من سبقها؟
“كان حلم بوتين بإعادة بناء الإمبراطورية الروسية قائماً دائماً أن أوكرانيا ليست أمة حقيقية، وأن الأوكرانيين ليسوا شعباً حقيقياً، وأن سكان كييف وخاركيف ولفيف يتوقون إلى حكم موسكو”. إنها كذبة بالمجمل، حسب الفيلسوف الاسرائيلي يوفال نوح هراري، فأوكرانيا دولة لها أكثر من ألف عام من التاريخ، وكانت كييف بالفعل عاصمة هامة حتى عندما لم تكن موسكو قرية بعد. وهكذا سيعقّب هراري بالقول “لكن الطاغية الروسي كرر الكذبة مرات عديدة لدرجة أنه بات يصدّقها بنفسه”.
الوقائع تحكي الكثير، ونعني الوقائع المرئية، ففي مثل عالمنا، ستبقى الوقائع الجدية طيّ الكتمان، وقد لاتفرج عنها الاراشيف إلاّ مابعد القيامة، غير أن من الحقائق المكشوف عنها هو أن بوتين اعتمد على العديد من الحقائق المعروقة للتخطيط لغزو أوكرانيا. لقد كان يعلم أن روسيا تقزم أوكرانيا عسكريا، وكان يعلم أن الناتو لن يرسل قوات لمساعدة أوكرانيا، كما كان يعلم أن الاعتماد الأوروبي على النفط والغاز الروسي سيجعل دولاً مثل ألمانيا تتردد في فرض عقوبات صارمة. بناءً على هذه الحقائق المعروفة، كانت خطته هي ضرب أوكرانيا بقوة وسرعة، وقطع رأس حكومتها، وإنشاء نظام دمية في كييف، والتغلب على الغضب العاجز للعقوبات الغربية.
كل ما سبق من “حقائق” هي المنزلقات التي وقع بها الرئيس الروسي، ودون ادنى شك، فهي منزلقة للأمريكان ضلع فيها، بما يعني توريط الرجل عبر ابداء رخاوة امريكية، وضعف اوروبي، مع معرفة الإدارة المسبق بأن الرئيس الروسي من هواة المغامرة بكل الأوراق إن لم يكن من محترفيها، وكان سبق للرجل أن غامر باجتياح القرم، ولم يتعثر بخطوته، فلم لاتكون اوكرانيا اليوم، وما الذي يختلف؟
اختلف الامر كثيرًا، لا لأهمية اوكرانيا الاستثنائية بالنسبة للولايات المتحدة، بل لخطورة أن يضع بوتين يده عليها وعند هذا “سيضع يده على التاريخ” ليكتب تاريخًا جديدًا ليس ذاك التاريخ الذي حكى عنه فوكوياما، إنه:
ـ تاريخ القيصر وقد حطّ بثقله على تاريخ السوق.
وحدث ماحدث، وبلا أدنى شك فالعالم كل العالم يتحسب اليوم للمزيد، فلدى الرئيس الروسي مايكفي لتدمير العالم مرة او مرتين، وليس ثمة ما يحول من إطلاق غرائز الموت عند الرئيس الروسي وطواقمه، وليس ثمة ما يحول دون الاحتكام الى قاعدة:
ـ عليّ وعلى اعدائي.
وعند ذلك ستكون القارة الأوربية عرضة للددمار، وليس من أمر بعيد أن تواجه ولايات أمريكية دمارها، وليس ما يستدعي لاستغراب مثل هذا الكلام إذا ما علمنا أن فلاديمير بوتين، مشبع بروح الساموراي الذي لايفك عن الانتحار حين يكون بمواجهة الهزيمة، وهذا هو الرجل في مواجهة لا مخرج منها، ولا باب مفتوح لها، ولا أي مكان للدبلوماسية التي تحل محل الحرب مايعني الاستعصاء على الحلول، وحين يكون الامر كذلك يكون الانتحار، وكنا قد أصغينا جيدًا لخطاب الرئيس جو بايدن، وكان خطاب محارب سيأخذ الأمور إلى نهاياتها مستخدمًا مبضع الجرّاح لا خيميائي الأعشاب.
عالم اليوم بات في حال من الاستعصاء الكامل، فلا احد بوسعه الرهان على ان بوتين سيفعل مافعله صدام حسين يوم انسحب من الكويت تحت وطأة “عقلانية طارئة”، وليس بوسع الرئيس الروسي أن يتقبل صورة له في حفرة وقد وصلتها قوات المارينز لتتفحص فمه باحثة عن الـ دي ان اي، وبالنتيجة، لن يكون بوسعه سوى المضي إلى الآخر في حرب قد تكتب آخرة أوروبا أولاً مع آخرة روسيا ورئيسها معًا.
جدران الكرملين سميكة.. كل التظاهرات التي يضجّ بها العالم لاتُسمع عند ساكني الكرملين