قد يكون هو النداء الذي ستتعالى به مكبرات الصوت في عالم اليوم، وليس مستبعدًا حدوث هذا أقله إذا ما تتبعنا “فورين بوليسي” التي تقول “لسنا في عالم سعيد” ومن ثم لتقول بأن “الحرب قابلة للاشتعال مجددًا وجرّاء أقل الأسباب وأبعدها عن الأخذ بالحسبان”.
سيكون الأمر أكثر إدهاشًا مع مثل هذا الكلام “حرب عالمية جراء أقل الأسباب وأبعدها عن الحسبان”.
والحال كذلك ماهي تلك الأسباب؟
الولايات المتحدة حاليا في مأزق مُتعلِّق بسيادتها، فإمّا أن تقبل بأن قيمها الليبرالية ليست قيما عالمية وتنسحب من شرق آسيا لتترك الصين تتوسّع في مناطق نفوذها التاريخية، وينتهي بذلك عصر السيادة الأميركيّة، وإما أن تخوض حربا تكون فيها عناصر التقدُّم التكنولوجي إلى جانب الولايات المتحدة لكي تطوي فصل الصين إلى الأبد.
هذا أول “أقل الأسباب”، ولكن ما الذي تعنيه حروب اليوم وهي متنقلة ما بين أفغانستان وليبيا والسودان وأوكرانيا وسوريا على سبيل المثال، أليست حربًا عالمية و… بالتقسيط؟
لا.. الأمر لن ينتهي هنا، فبالرغم من محاولات الأكاديميين والسياسيين استبعادَ حرب القوى العظمى كونها مصدر تهديد حقيقي، فإنَّ الظروف التي تجعلها ممكنة لا تزال قائمة، فالتوتّرات مستمرّة في أوساط القوى العظمى لعالم اليوم، وقبلهم جميعا بين الولايات المتحدة والصّين، ويُمكن لأي عدد من نقاطِ التوتّر أن يُشعِل فتيل الصّراع بينهما، والبَلَدانِ على مسارِ تصادُم تُغذّيه ديناميكيّات انتقال مراكز القوّة والتنافس على المكانة والاعتبار، ودونَ تغيير في الاتجاه، فإن الحرب بينهما ليست محضَ إمكانية فحسب لكنّها مُرجَّحة أيضا.
ثمة من يستبعد هكذا حرب، فـ “حتى مع احتدام المنافسة الجيوسياسيّة بين الولايات المتحدة والصين، يرفُض معظم الأميركيين المتبصّرين في السياسة الخارجية والإستراتيجية الكبرى التصديق أن الحرب مُرجَّحة”. ومن ينكرون إمكانية وقوعها يستندون إلى أن الترابط الاقتصاديّ بين الولايات المتحدة والصين يحدّ من مغبّة الصراع العنيف، لكنّ التاريخ يأتينا بكثير من الأمثلةِ التي تساعد في التصدي لهذه الفرضية، إذ لم تكُن بلدان أوروبا أقل ترابُطا عمّا كانت عليه قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، اقتصاديا وثقافيا على حدٍّ سواء، وجمعت روابط وثيقة بين اقتصادات أكبر مُتحارِبَيْن في تلك الحرب وهما بريطانيا وألمانيا، ومع ذلك وقعت الحرب.
ثمة من ينفي احتمال وقوع مثل هكذا حرب استنادًا إلى الإيمان بقوّة الرّدع النووي، ولا شكّ أنّ خطورة الدمار المؤكّد المشترك جرّاء حرب نووية قد لعبت دورا في منع تحوُّل الحرب الباردة إلى أخرى ساخنة. لكن في العقود الأخيرة، بدأ التقدُّم التكنولوجيّ يُضعِف قوّة هذا الرّادع، وبدأ مزيج من أنظمة الرؤوس النووية عالية الدقّة والمصغّرة محدودة القوّة يُفسِح المجالَ لما لم يكُن في الحسبان: حرب نووية “محدودة”، لا ينجُم عنها دمار عالميّ.
بعيدا عن هذا وذاك، فالتاريخ يُبرهن أن كوابح الحرب بين القوى العظمى أضعف مما تبدو عليه عادة. وبالتحديد، فإنَّ مسار التنافس الألماني والبريطاني الذي تمخضت عنه حرب عام 1914 يخبرنا كيف يُمكن لقوّتين عُظميين الانجرار في النهاية إلى صراع بدا أنّه مستبعد جدا حتّى اللحظة التي نشب فيها. ولا يُمكن لأوجه الشبه في التنافس الحالي بين الصين والولايات المتحدة أن تكون أوضح مما هي عليه.
لماذا تذهب البلدان إلى الحروب؟
لأسباب عديدة، غير أن المؤرخة مارغريت ماكميلان تفيدنا بأن الصراع كان “نتيجة إحساس قوّة عظمى أنّ أفضليّتها تُسلَب منها، ونتيجة لمنافِس صاعِد أيضا”، ومثلما تكتب فإن أوجه الشبه بين التصادم الألماني البريطاني قبل عام 1914 وبين العلاقات الصينية الأميركيّة صادمة ومُنذِرَة، إذ تجد الولايات المتحدة نفسها في مكان بريطانيا، قوّة مهيمنة حاليّة قوّتها النسبيّة في طور التآكل التدريجي. حالها حال لندن سابقا، تستاء واشنطن لصعود الصين الذي تُرجعه إلى عوامل كالسياسات الاقتصادية والتجارية غير المنصفة، وتنظر إلى عدوّها بوصفه طرفا سيئا تتنافى قيمه مع الليبرالية. ومن جهتها، تريدُ الصين حالها حال ألمانيا قبل اندلاع الحرب العالميّة الأولى أن تنال الاعتراف بوصفها قوّة مكافئة على المسرح الدولي وتسعى لبسط هيمنتها على المناطق المحيطة بها. إن عجز بريطانيا عن التأقلم بسلميّة لصعود ألمانيا ساهم في اندلاع الحرب العالمية الأولى، واتّباع الولايات المتحدة خُطى بريطانيا هو ما سيُحدِّد انتهاء التنافس الأميركي الصينيّ بالحرب من عدمه.
بالنسبة إلى قادة الصين، فتاريخ بلادهم يخبرنا عمّا يُمكن أن يحدث للبلدان الكبرى التي تُخفق في القفز إلى منازل القوى العظمى، فهزيمة الصين على يدِ بريطانيا وفرنسا في حربَيْ الأفيون الأولى والثانية خلال منتصف القرن التّاسع عشر إنّما جاءت من عدم مقدرتها على التكيّف مع التغييرات التي جلبتها الثورة الصناعيّة. وبسبب ضعف استجابة قادة الصين، تمكّنت القوى الأقوى من السيطرة على شؤون البلاد، ويُشير الصينيّون إلى العصر الذي تبع هذه المرحلة، حيثُ أخضعت اليابانُ والقوى الغربيّة الصين “بِقَرن الإذلال”.
صينيو اليوم يقولون بلسان دينغ شاو بينغ “إنّ مَن يتخلّفون عن الركب يتجرّعون الهزائم”، والمتابعون للصعود الصيني يعرفون بأن هدف بكين على المدى البعيد والذي هو اكتساب الثراء سيقود لأن يُمكِّنها هذا الثراء من اكتساب القدرات العسكريّة والتكنولوجيّة التي تحتاج إليها لانتزاع الهيمنة في شرق آسيا من قبضة الولايات المتحدة.
بالنسبة للأمريكان فربما يكون كلامًا لوزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو قد يوضح هواجسها فالرجل يقول: “علينا أن نأخذ في الحسبان أنَّ نظام [الحزب الشيوعي الصيني] هو نظام ماركسي لينيني”.
كلام كهذا لابد وأن يستدعي كنايات الحرب الباردة للاتحاد السوفيتي بوصفه “إمبراطوريّة الشر”، ونزع الشرعية عن الحكومة الصينية في أنظار الأميركيين وتصوير الصين باعتبارها طرفا سيئا في السياسات الدولية.
بطبيعة الحال، كلام بومبيو لايعنيه وحده، فهذه الصورة التي يرسمها الرجل ليست حكرًا على الصقور بل إنَّ طيفا واسعا من أبناء المؤسسة في واشنطن يعتقدون أن التهديد الحقيقي للولايات المتحدة ليس في القوة العسكرية والاقتصادية المتزايدة للصين، وإنما في التحدي الذي تفرضه بكين للنموذج الأميركي في التنمية السياسية والاقتصادية.
في خرائط اليوم، من غير المُرجَّح أن تتخلى الصين عن هدفها المُتمثِّل في التحوُّل إلى قوة مهيمنة إقليمية في شرق آسيا، كما ستُواصِل بكين الضغط على الولايات المتحدة لمنحها الاحترام باعتبارها قوة عظمى مكافِئة. إن تجنُّب الحرب من خلال استيعاب رغبات الصين سيتطلّب من الولايات المتحدة التراجع عن ضمانها الأمني لتايوان والاعتراف بمطالب بكين في الجزيرة، وستحتاج واشنطن أيضا إلى القبول بحقيقة أن قيمها الليبرالية ليست قيمة عالمية، وبالتبعية التوقُّف عن التدخُّل في الشؤون الداخلية للصين من خلال إدانة سياسات بكين في هونغ كونغ وسنجان وإصدار دعوات مبطنة لتغيير النظام.
هل ستنساق الولايات المتحدة لمثل هذا الخيار؟
هناك فرصة ضئيلة في أن تتخذ الولايات المتحدة هذه الخطوات، والقيام بذلك سيعني الاعتراف بنهاية سيادة الولايات المتحدة، وهذا يجعل احتمالية نشوب حرب ساخنة أكثر احتمالا. على عكس ما حدث أثناء الحرب الباردة، عندما قبلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي عموما مجالات النفوذ الأوروبية لبعضهما بعضا، فإن وجهات نظر واشنطن وبكين مختلفة تماما حول مَن يجب أن يتمتع بالامتياز في شرق الصين وبحر الصين الجنوبي وتايوان.
مؤشرات الحرب تتعالى، ولكن ماذا لو وقعت الحرب فعلاً؟
إذا ما حدث ذلك، فعلى البشرية أن تخلع “كمّامات” كورونا، لترتدي كمّامات مضادة للرياح السامة التي ترسلها الصواريخ العابرة للقارات.
قبل هذا وذاك على العالم أن يسارع إلى حفر ملاجئه.
ملاجئ لاترد الموت عنه، وقد:
ـ تتيح للبشرية مدافن لائقة.