ذاك الفتى سامر فرنجية، يرسم لنا التفاصيل غير المرئية لـ “ثورة الشباب في لبنان”، نعم هي ثورة الشباب، وليس لها اسم آخر وإن انتظم فيها كهول وعجائز وعمّال وحرفيون وحتى عسكريين مقاعدين، فقد “كان من المُفترض أن تكون ليلة خميس كسائر الليالي التي سبقتها، ليالٍ مضجرة من التأقلم مع الانهيار البطيء. انتهيت من سهرة تشبه السهرات التي جاءت قبلها”.
هكذا إذن؟ وبعد؟
وبعد يكتب الفتى “كنت عائدًا إلى بيتي عندما بدأت الأخبار تتسارع عن شيءٍ ما يحدث في وسط بيروت.. لم يكن أحدٌ يدري ما الذي يحصل أو مدى جديّته، ولكن بدأنا نشعر بدافعٍ لا يقاوم للتوجه إلى الساحة. بدأت الهواتف ترنّ بعصبية غير معتادة، أرقام لم نرَها منذ الـ2015. والسؤال ذاته: حرزانة هل مرة؟.
البعض قرّر الانتظار بعض الوقت. أما نحن، فنزلنا لكي نرى. ورأينا الساحة مشتعلة، رأينا كذبة النظام تذوب وسط هذه النيران، رأينا تعاستنا تزول. نظرنا لبعضنا بعضاً، ومن دون أيّ كلمة، فهمنا أنّ “هالمرّة حرزانة”.
بدأت الثورة، وبدأ معها مسلسل الطلاق مع السلطة.
اكتشفنا هذه الليلة أنّ علاقتنا بها كانت مسيئة وعنفية ومهينة مهما عارضناها. فحتى مقاومتها تلوّث. ما يسَمْعوني صوتن، كان آخر تصريح لمسؤول سياسي قبل الثورة. فلم نجد ما نردّ به إلّا الشتيمة.
الحريري طلب 72 ساعة ليأتي بحل، ولم يستطع إلا تقديم ورقة إصلاحية سخيفة. وبتعجرفه المعتاد، أكّد نصر الله أنّ العهد لن يسقط. بعد بضعة أيام، قال رئيس ممنتَج شيئًا ما، لم أعد أذكر ما هو. عاد نصر الله وصعّد كعادته، ثم أرسل شبّيحته لقمع المتظاهرين.
وبعد؟
أعادوا إنتاج الرئيس، ولكنّي ما زلت لا أتذكر ماذا قال. عاد نصر الله للمرّة الثالثة، وطمأن موظّفيه أنّ معاشاتهم ستُدفَع آخر الشهر. فهم التيار أنه لا يمكن إعادة منتجة الرئيس للمرّة الثالثة، فأخرجوه حيًا. تكلّم عن الحب، ثم أعادوه إلى القصر. عصّب رئيس المجلس وأجّل جلسة العفو العام.
جاء نهار النكبة، نهار الخطابات الطويل. وعدنا نصرالله بالبطاطا العراقية والنفط الإيراني. فاشتعل البلدان. حاول التيار للمرة الأخيرة، فاختار شكل المقابلة علّها تصلح مع هذا الرئيس. صمد أربعين دقيقة، ومن ثم فلت. فاشتعلت البلاد.
لم يبقَ الكثير للسلطة لتُقدّمَه، عرضوا الصفدي، ولكنّه سقط قبل أن يكلَّف.
بات السقوط يتسارع، من أسبوعين إلى يومين. واستكمل الطلاق الذي بدأ ذات ليلة خميس.
ظهرت السلطة كبلاطة على صدرنا، بلاطة وانزاحت، وانزاح معها حاجز الخوف.
بدأ في هذه الليلة، ليلة الخميس ١٧ تشرين. البداية كانت مع أفراد انقطعت العلاقة معهم منذ الـ2015، وغيرهم منذ الـ2011، أو حتى الـ2005. لم يكن من الضروري الكلام عن الماضي، فالتاريخ بدأ عن جديد. ثم جاء المندسون واستقبلوا بالأرز، فهم كانوا المدافعين الأوائل عن الثورة.
الساحة بدأت تنفتح على نفسها. ساحة تعارض السلطة، ولكنّها أيضا ساحة تكتشف نفسها. أفراد يناقشون، ينتظمون، يختلفون، ولكن يبقون سويًا.
لم يمرّ الكثير من الوقت حتى أصبحت الساحة ساحات: طرابلس، جل الديب، النبطية، بعلبك وبدأت الصيحات من منطقة إلى أخرى، تتضامن مع القمع المتنقّل وتكسر حواجز عمرها عقود.
بعد الحواجز المناطقية، حواجز الإسمنت، فتحرّرت الأماكن العامة من الزيتونة إلى ساحة النور، وعادت المساحات العامة للناس.
آخر حاجز كان الحاجز الجيليّ. وفي لحظة تعثّرت فيها الثورة، انتفض طلاب لبنان ليؤكّدوا للجميع أنّنا انتصرنا، مهما سيحصل.
وفي ذكرى الشهر على الثورة، انتصرت الثورة على الأحزاب بأجمعها في معركة نقابية. وفهمنا أنّ السلطة باتت خارج الموضوع. لم تعُد تستحقّ شتيمة. وبات الهيلا هيلا هو جبران باسيل كسمه مجرّد عبارة نردّدها لنتذكّر الأيّام الأولى لهذا الشهر. فلم نعد نثور ضد السلطة، بل من أجل بعضنا بعضاً.
الثورة قد تكون للبعض مقاومةً وصموداً وعنفواناً. ولكن، في شهرها الأول، ثورتنا شهر عسل، ثورتنا حب.
مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.