يقول الفيلسوف والمناضل الإيطالي، أنطونيو غرامشي “نحن نعيش في فترة انحلال؛ ضاعت فيها قيم الماضي وتلاشت، وعجزت هي عن الإتيان بجديد”. نحن بالفعل نعيش في عصر كرس فيه الكيان، الذي يطلقون عليه اسم دولة، كل أدواته؛ من أجل الحفاظ على سلطته وضمان بقائه في الحكم، أما المواطنون الذين يستمد منهم هذا الكيان أسباب استمراره على قيد الحياة بما يدفعونه من ضرائب، فلا قيمة لهم.
والواقع أن ما يحدث بعد الكوارث الطبيعية مثل حدوث زلزال أحياناً أو انهيار جليدي أحياناً أخرى، وكذلك ردود الفعل حيال كوارث أخرى مثل انشطار طائرة أو اصطدام قطار، أو كوارث السياسة الخارجية التي سببها شخص واحد مثل ما يحدث في إدلب اليوم، أو حتى عند إصدار حكم في قضية “احتجاجات غيزي” من قبل قضاء تابع للسلطة ومتجاهل لجوهر العدالة، إنما يبين لنا القيمة الحقيقية لحياة المواطن في نظر هؤلاء الحكام. تضع السلطة الحاكمة في تركيا اليوم على قمة أولوياتها هدف الاستمرار في الحكم حتى عام 2023 انطلاقاً إلى هدف آخر لا تريد الكشف عن تفاصيله. ولتحقيق هذا، فهي تتبع منهجاً سياسياً موحدًا في تعاملها في الداخل والخارج يقوم على الترهيب، وبث الخوف في نفوس الجميع. وهو منهج من شأنه حجب اعتراضات أعدائها في الداخل، أولئك الأعداء الذين يعتقد أنهم يبلغون نصف سكان تركيا، وكذلك جميع أعدائها الخارجيين؛ من الولايات المتحدة الأميركية إلى روسيا، ومن الاتحاد الأوروبي إلى سوريا، ومنع الشعب من الإنصات إليها.
على الرغم من أن إجراءات الحكومات الاستبدادية وأولوياتها تختلف من بلد إلى آخر، إلا أن إنكار الواقع ومحاولة إقناع الآخرين بتصورها الخاص، تظل هي السمة المشتركة بين الحكومات المستبدة حول العالم
ولهذا، نسج خيال أردوغان سياسة تفترض أن الدفاع عن حدود تركيا يبدأ من دول أخرى مثل اليمن والصومال. ومن المحتمل أن يصل إلى الشرق الأوسط والأقصى كذلك، وأن تركيا لديها من القوة، سواء من ناحية السلاح أو الجنود، ما يمكنها من القيام بهذه المهمة، ومع ذلك، فإن الحقائق لا يمكن حجبها طوال الوقت، أو استمالتها هي الأخرى إلى جانب السلطة.
فعلى سبيل المثال يمكن لفايروس، كما يحدث في الصين في الوقت الراهن، أن يخترق قوة الحكومات الاستبدادية التي بطبيعتها لا تعترف أبداً بأخطائها، وتتستر على مشكلاتها؛ ظناً منها أن لديها من القوة ما يمكنها من حل أية مشكلة في وقت سريع للغاية.
فبينما يسير الرئيس الصيني شي جين بينغ بخطى واثقة نحو تحقيق هدف 2025، تماماً مثلما يحاول أردوغان عندنا الوصول إلى هدفه عام 2023، مستعيناً على تحقيق ذلك بشبكة مراقبة تكاد تعد على الصينيين أنفاسهم، إذ به يُواجه بفايروس “كورونا”.
أراد أن يُظهر قوته وحزمه من خلال فرض تدابير صارمة مُبالغا فيها لمحاصرة هذا الفايروس، والتكتم على الأمر برمته، فكانت نتيجة ذلك أن الفايروس انتشر بشكل أحدث ضررًا خطيرًا بالاقتصاد الصيني.
لقد علم العالم مؤخرًا أن بداية ظهور الفايروس كانت في أواخر أكتوبر وبدايات شهر نوفمبر من العام الماضي، وأن الحكومة الصينية تعمدت إخفاء نبأ انتشار الفايروس بعد أن قامت في سرية تامة بوضع ما يقرب من 30 مريضًا في الحجر الصحي بإحدى المستشفيات الخاصة. وزيادةً في التكتم على الأمر قامت باعتقال العشرات الذين تداولوا أخبارًا عن انتشار هذا الوباء.
وبذلك أنكرت تماماً وجود هذا الفايروس واستمر الصينيون في حياتهم واحتفالاتهم المعتادة. ولكن الفايروس كان أقوى من كل هذه الحيل وأخذ ينتشر في جميع أنحاء العالم. واضطر المسؤولون الصينيون في النهاية إلى الاعتراف، على مضض، بوجود هذا الوباء.
نسج خيال أردوغان سياسة تفترض أن الدفاع عن حدود تركيا يبدأ من دول أخرى مثل اليمن والصومال. ومن المحتمل أن يصل إلى الشرق الأوسط والأقصى كذلك
ما وددتُ الوصول إليه من خلال تناول هذا الموضوع هو أن دولة بقوة الصين لم تستطع أن تحجب حقيقة واقعة، واضطرت إلى الاعتراف بوجود هذا الفايروس. ولكن المواطن في النهاية هو الذي سيدفع فاتورة هذا الأمر.
على الرغم من أن إجراءات الحكومات الاستبدادية وأولوياتها تختلف من بلد إلى آخر، إلا أن إنكار الواقع ومحاولة إقناع الآخرين بتصورها الخاص، تظل هي السمة المشتركة بين الحكومات المستبدة حول العالم. ومع هذا، فالتاريخ مليء بالأدلة والبراهين التي تؤكد أن الانهيار في المجتمعات التي لا تستطيع التمييز بين الحقائق والمعتقدات كان أسرع بكثير مما كان متوقعًا.
تعيش المجتمعات التي لها تجربة عريقة مع الديمقراطية في الماضي، حتى لو كانت معطلة في الوقت الحالي، كما هو الحال في تركيا اليوم، على أمل أن تتعرقل الحكومات الاستبدادية التي بدأت في إحكام سيطرتها على الشعب بتدمير المؤسسات الديمقراطية عبر نشر معلومات وتصورات زائفة لا تمت للواقع بصلة. وتكمن المشكلة الحقيقية هنا في أن اضطرارهم إلى الانتظار طويلاً حتى يتحقق هذا الأمل سيدفعهم إلى الجمود وتجاهل الثمن الباهظ الذي سيدفعه الشعب نتيجة لحجب الحقائق.
ومع ذلك، فلا شك أن أطماع الأنظمة الاستبدادية لا تعرف لها حدودًا؛ وبالتالي فهي لن تقنع بما في أيديها. وهي لا تهتم طوال فترة وجودها في الحكم كذلك بما يعانيه المواطنون في حياتهم، أو بسقوط أبرياء من أبنائهم. وجل ما تريده هو أن يشاركها الجميع في مشاعرها وأفكارها؛ ومن ثم فهي تصادر حقنا في الاختيار، وتختار لنا من نصالح ومن نعادي؛ وبالتالي كان من الطبيعي للغاية أن نرى أمامنا دولة أخرى تماماً. ومع هذا، قد يؤدي ظهور فايروس أو حدوث انهيار جليدي إلى تدمير كل التصورات التي نسجتها الحكومات المستبدة في أي مكان في العالم.