حين سمّموا الريف وانتهكوا المدينة

بدأت انهيارات الدولة السورية، يوم أفقر الريف.. تلك حقيقة تحكيها تلك النزوحات الهائلة التي طالت الأرياف السورية، لتتحول هذه الأرياف إلى عشوائيات المدن الأساسية كما دمشق وحلب، أما الإفقار، فلم يقتصر على انعدام التخطيط للمسألة الزراعية بما يدعم القطاع الزراعي، بل تعداه إلى الحصارعلى القطاع الزراعي، عبر الحيلولة دون التسويق العادل للمنتجات الزراعية، في الوقت الذي كانت تكلفة الانتاج الزراعي ترتفع تبعًا للارتفاعات الهائلة في مكونات الانتاج الزراعي كالبذار والأسمدة وسواهما، والأخطر من هذا وذاك، تسميم الأراضي الزراعية كما تلك الواقعة في ثمانينات القرن الفائت، يوم استوردت الحكومة مبيدات فرنسية منتهية الصلاحية، وكانت من مشتقات البوربون، ورشقتها فوق مساحات هائلة من أراضي الشمال السوري، ما أعدم الأرض إمكانية أن تحيا، دون نسيان ما أحدثته حكومة البعث من تمليح قاتل لأراضي الغاب الذي لحق بأراضي الشمال السوري، ومع التسميم، والحصار، والإهمال، كان النزوح من الأراضي الزراعية للالتحاق ببيرقراط النظام بشقيه المدني والعسكري، ليتحوّل المزارع السوري إلى حارس من حرّاس النظام، مصيره إما الموت جوعًا أو الالتحاق بالفساد والفاسدين، دون نسيان أن الفساد لم يكن متاحًا للجميع وإن كان قد تحوّل إلى السمة العامة للدولة.

خطورة الأمر، أن هذه التحولات في المسألة الزراعية قد تحوّلت بطريقة ما إلى صراع ما بين مدينة وريف، حتى باتا ضدين، بثقافتين مختلفتين، وربما متناحرتين، وهو ما يمكن تلمسه في المدن الرئيسية كما مدينة دمشق وقد تريفت المدينة بعد أن هجر الريفيون ريفهم، فلم تعد دمشق أنظف مدينة في العالم كما حالها 1956 يوم صنفتها اليونسكو بهذا التصنيف، كما لم يعد الريف ريفًا كما كان حاله مع تجربة أصفر ونجار في الشمال السوري يوم كانت الجزيرة السورية عام 1956 قادرة على إطعام العالم الثالث قمحًا قاسيًا.

بالنتيجة لم يعد الريف ريفًا ولم تعد المدينة مدينة، وبات المكان خليطًا من بيرقراط حكومي يجثو على صدور الناس، ومعه النهب والفساد وإعاقة المنتج الوطني، ماحوّل البلاد إلى شقة للإيجار، وهذه تداعياته اليوم، تظهر في حوارات مثفين، جزء منهم يلعن المدينيين، وجزء آخر يلعن الريفيين، واللاعن والملعون لاهما بالريفي ولا هما بالمديني، فهما هذا وذاك في الخراب الذي تركته سياسة بناها حافظ الأسد مفادها حرب الجميع على الجميع ليكون سيّدًا على الجميع.

ـ اليوم، سوريا تحصد النائج، وقد انتقل الصراع فيها من صراع مع الفساد والسلطة الفاسدة، إلى صراع طائفي وإن لم يعلن عن نفسه خجلاً من الإعلان، وثالثهما صراع الريفي مع المديني، وهو ما تجسّد خلال الأيام الفائتة بمجموعة من الحوارات التي يكفّر فيها واحدهم الآخر تحت عنوان ريفي ومديني.

ـ سوريا خرابة، هوذا الحال.

لاهي ريف ولا هي مدينة.

هي صيغة قابلة للزوال إن لم تسمى الأشياء بأسمائها، وأسماؤها في الصندوق الأسود الذي ماتزال مفاتيحه بأيدي آل الأسد. 

Exit mobile version