اسقاط نظامٍ، فحروب، فدولة تهددها الميليشيات وحكومات الظل، ثلاث جمل ربما هي الأكثر تعبيراً عن تاريخ العراق الحديث الممتد منذ إسقاط نظام صدام حسين في العام 2003، وحتى اليوم، وربما إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
نظرة سريعة على مجمل الأحداث التي شهدتها البلاد منذ ذلك الحين، قد تكون كفيلةً بإظهار كم الدماء المراق في الشوارع، الذي خلف وراءه آلاف المآسي؛ وكله كان تحت عنوان رئيسٍ واحد: “بناء العراق الحديث”.
ابحث عن إيران في مسارح العراق
رغم كل الاختلافات والتباينات في وجهات النظر حول ما يحدث في العراق، إلا أنه ثمة دائماً قاسم مشترك أكبر تتقاطع عنده الأحداث والمواقف، إنه “إيران”، التي كانت حجر الزاوية بحسب الكثير من المحللين السياسيين في كل ما شهده العراق منذ 16 عاماً وحتى اليوم، بدءاً من التحضير الاستخباراتي لإسقاط نظام صدام حسين، وصولاً إلى التحذيرات بتحول العراق إلى دولة محكومة بالميليشيات وحكومات الظل، مروراً بالحروب الأهلية.
أولى تلك التحذيرات صدرت من زعيم التيار الصدري الناشئ في إيران “مقتدى الصدر” الذي صرح في بيانٍ له أن العراق يتجه إلى أن يكون دولة شغب، وأن حكومة “عادل عبد المهدي” تسير نحو نهايتها.
تحذيرات الصدر لم تكن آتية من تخمينات أو توقعات شخص عاديٍ، وإنما بناها على ما تردد مؤخراً عن سعي ميليشيات الحشد الشعبي المدعومة إيرانياً لتشكيل قوة جوية خاصةٍ بها، لتخطو بذلك وفق تعليقات ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي خطوةً جديدة باتجاه بناء دولتها الخاصة داخل الدولة العراقية، لا سيما وأنها الميليشيا المتمتعة بمزايا خاصة؛ كبناء المعتقلات خارج إطار الحكومة وتشكيل الوحدات العسكرية والقوة الأمنية الخاصة، بالإضافة إلى امتلاكها مخازن وقطع عسكرية تفوق القوة العسكرية النظامية، وتحديداً في ظل الدعم المقدم من الحرس الثوري الإيراني والذي وصل إلى حد إقامة مشروع تطوير للطائرات المسيرة على الأراضي العراقية، دون أي مشاركة للدولة العراقية في ذلك.
تحرشات الحشد الشعبي لم تقتصر فقط على ما ذكر سابقا، وإنما تعدتها إلى تصريحات أحد قيادييها البارزين الذي اتهم الجيش العراقي بالعمالة، مطالباً بتسلم الميليشيا حكم البلاد بشكل كامل بعد حل الجيش، الأمر الذي دفع العديد من المتابعين لطرح سؤال منطقي مفاده: “هل باتت الميليشيات الإيرانية فوق الدولة العراقية؟”، وهل سيكون العراق أمام تكرارٍ لسيناريو الحوثيين في اليمن، خاصة وأنه يمتلك حدوداً كبيرة مع المستهدف الأول من قبل إيران، وهي “السعودية” و”دول الخليج العربي”.
بعد المليشيات، حكومات الظل القادمة من طهران
لا شك بأن الحديث عن أوضاع العراق تحديداً يتطلب خروجاً من دائرة التحليلات والشكوك، للحديث عن تصريحات واضحة لا لبس فيها، كتلك التي صدرت عن زعيم تيار الحكمة “عمار الحكيم” الذي قاد سابقاً ميليشيات بدر؛ التي تعتبر واحدة من أهم الأذرع الإيرانية في المنطقة، وصاحبة الدور الأكبر في الحرب الأهلية الطائفية التي اندلعت في العام 2006 بحسب تقارير منظمات حقوقية.
أما عن اللافت في تصريحات “الحكيم” فهو تأكيده وبشكلٍ علني نيته تشكيل حكومة ظلٍ في العراق تتولى فعلياً زمام الأمور في البلاد، فيما بدا وبحسب محللين سياسيين أنه خطوة إيرانية جديدة لإحكام السيطرة على العراق سياسياً وعسكرياً عبر المنظمات البديلة أو الحكم بالوصاية من خلف ستار ، من خلال تحويل مؤسسات العراق وحكومته إلى مجرد ستارة يختفي وراءها اللوبي الإيراني المتمثل غالباً برجال الدين.
أمراء حرب وحرس ثوري بنكهة عراقية
أمام كل تلك التطورات، والأحداث التي شهدتها البلاد، رأى الباحث في الشأن العراقي “غانم العابد” أن إيران بعد العام 2014، وعودة التدخل الدولي لمواجهة تنظيم “داعش” استشعرت بأنها بدأت تفقد نفوذها في العراق، الأمر الذي دفعها لتفعيل خيار أمراء الحرب عبر ميليشياتها هناك، مضيفاً: “قبل دخول داعش كانت إيران متغلغلةً في الشأن العراقي ومفاصل اتخاذ القرار، لدرجة أن الحكومات كانت تشكل في طهران وتنقل إلى بغداد، أما بعد الحرب على تنظيم داعش بدأ هذا النفوذ بالانحسار، خاصةً مع عودة التدخل الأمريكي المباشر، وانتفاح الكثير من الدول العربية على العراق”.
“العابد” رأى أيضاً أن أولى خطوات إيران في تأمين ما تبقى لها من نفوذ تمثلت بنجاحها بتشريع وجود ميليشيات الحشد الشعبي عبر دمجها الشكلي في القوات العراقية، في خطوة تهدف لنقل تجربة الحرس الثوري إلى العراق، مشيراً إلى أن الهجمات الأخيرة التي تعرضت لها مواقع الحشد الشعبي أظهرت بشكلٍ جلي حالة الشقاق بينه وبين القوات النظامية، خاصة بعد التصريحات التي طالت هيبة الجيش العراق، على حد قوله.
وأضاف العابد: “فائدة إيران ومصلحتها من نقل تجربة الحرس الثوري إلى العراق تكمن في تحريكه لاستهداف المصالح الأمريكية والغربية وحتى ضد الدول العربية المجاورة كلما اقتضت الحاجة، كما هو الحال اليوم في ظل التضييق والعقوبات المفروضة على النظام الإيراني”.
حكومة هزيلة ومستقبل مجهول
كحال كافة المخططات السياسية، لم يكن لإيران وفقاً “للغانم” أن تنفذ أجنداتها في العراق دون تهيئة الظروف الكاملة على الأرض، وأولها استغلال حكومة “عادل عبد المهدي” الهزيلة التي لا تزال حتى اليوم عاجزة عن حل أي من مشاكل العراق بعد عامٍ كاملٍ من تشكيلها بحسب وصف “الغانم”، الذي أضاف: “عبد المهدي وصل كمرشح توافقي ولا يمتلك أي كتلة داعمة له، وهو ما جعل منه رجلاً ضعيفاً أمام النفوذ الإيراني وقوة الميليشيات، وأعتقد أن هذه الحكومة ستنهار قريباً”.
كما أوضح “الغانم” أن المشكلة الحقيقية ستكون في مرحلة ما بعد حكومة “عبد المهدي” وما ستنتجه من مصير مجهول، لا سيما مع تحضير إيران لطرح ما يعرف بإقليم البصرة عبر ائتلاف دولة القانون ورئيس الوزراء العراقي الأسبق “نوري المالكي”، كما أبدى “الغانم” قناعته التامة أن الإقليم الذي تطالب به إيران عبر وكلائها حالياً لن يقتصر على البصرة وإنما سيشمل كامل المنطقة الجنوبية، لتكون رئتها ومتنفسها للوصول إلى حدود الدول العربية المجاورة، موضحاً: “إيران تدرك تماماً نظرة سنة وأكراد العراق لها كعدو، الأمر الذي سيدفعها لحصر نشاطها ونفوذها المباشر في المناطق الجنوبية عبر الميليشيات المنتشرة هناك”.
أما عن السيناريو الأخطر الذي قد يواجهه العراق، فقد اختصره “الغانم” بمحاولة إيران إعادة الفوضى إلى المناطق السنية في الوسط عبر تنظيمات مسلحة، إلى جانب تنفيذ عمليات تستهدف عدداً من المراقد المقدسة والتي قد تفتح الباب أمام عودة الحرب الأهلية، كما كان الحال عقب تفجير مراقد الإمامين العسكريين ودخول البلاد ثلاث سنوات من الحرب الطائفية، لافتاً إلى أن الشعب العراقي شعب عاطفي قد يتأثر بمثل هذه الحوادث، خاصة مع التحريض الإعلامي الذي تنتهجه الوسائل الإعلامية والشخصيات السياسية المدعومة إيرانياً، على حد قوله.
توقعات “الغانم” باندلاع الحرب الطائفية وعودة الفوضى، أرجعها إلى مصلحة إيران في ترسيخ هذه الحالة داخل العراق، مؤكداً استعداد طهران لحرق العراق والعراقيين وتدمير المراقد إذا كان في ذلك تحقيقاً لمصالحها.
مرصد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الإعلامي