دروس في المصالحة الوطنية

نبيل الملحم

في عالمنا العربي، يلوح شبح الحرب الأهلية في أكثر من زاوية، كأننا عالقون في قيد تاريخي لا ينكسر. وعندما يُطرح سؤال: “هل من مخرج؟”، كثيرًا ما يُستحضر المثال الجنوب أفريقي، لا كدرس جغرافي بعيد، بل كإمكانية حقيقية لهزيمة الكراهية بالسياسة، والانتقام بالعقل، والانهيار بالعدالة.

جنوب أفريقيا، التي كانت مختبرًا للعنصرية النظامية (الأبارتايد)، شهدت ما يفوق الحرب الأهلية: نظامًا مؤسسًا على فصل الأعراق، قمع الأغلبية، وسحق كل صوت أسود. لكنها لم تغرق في الدماء حين جاءت لحظة التحوّل. كيف؟ ولماذا؟

الجواب لا يُختصر في اسم “نيلسون مانديلا”، رغم رمزيته الهائلة، بل في منظومة عقل جماعي اختارت أن تؤسس للمستقبل لا أن تنتقم للماضي.

حين خرج مانديلا من سجنه بعد 27 عامًا، لم يخرج حاقدًا. والأهم، لم يكن وحده في هذا القرار. كان خلفه حزبٌ (المؤتمر الوطني الأفريقي) قرر أن النصر لا يكون في سحق الخصم، بل في إنقاذ البلد. فاختار الجنوب أفارقة “لجنة الحقيقة والمصالحة” بديلًا عن المحاكمات الجماعية والقصاص الدامي. اعترف القتلة بجرائمهم، وتلقّت العائلات اعترافًا واعتذارًا، وليس بالضرورة عقابًا.

لقد فُهِم هناك أن العدالة لا تعني فقط العقاب، بل أيضًا ترميم النسيج الاجتماعي، والبحث عن مخرج من الجحيم.

وبموازاة السياسة، انطلقت جنوب أفريقيا في إصلاح اقتصادي تدريجي، شجّع الاستثمار، وأعاد توزيع الموارد، وفتح الباب أمام التعليم والتطوير، مع حماية المؤسسات الديمقراطية.

اليوم، ورغم ما تعانيه من تحديات (الفقر، التفاوت)، تبقى جنوب أفريقيا مثالًا استثنائيًا: بلد خرج من قلب الظلم لا ليقيم عدالة انتقامية، بل ليقيم توازنًا هشًا لكنه إنساني.

في عالمنا العربي، حيث تنتج الحرب الأهلية ثأرًا أبديًا، يبدو النموذج الجنوب أفريقي درسًا في الشجاعة السياسية، والذكاء الجمعي، والأهم: في الاعتراف بأن الغد أهم من تكرار الماضي.

وإذا كانت جنوب أفريقيا قد هزمت العنصرية بالعقل، فإن رواندا هزمت الإبادة الجماعية بالنهضة.

عام 1994، شهدت رواندا واحدة من أبشع المجازر في العصر الحديث، حيث قُتل أكثر من 800 ألف إنسان خلال مئة يوم فقط، معظمهم من قبيلة التوتسي على يد ميليشيات من الهوتو. كانت الدماء تملأ الشوارع، والكراهية تبدو لا رجعة عنها. ظنّ العالم أن رواندا انتهت.

لكن ما جرى بعدها يستحق أن يُدرّس. فبدل أن تغرق البلاد في حرب انتقامية أو تتفكك على أسس إثنية، اختار الروانديون طريقًا آخر. المصالحة والبناء
قاد الرئيس بول كاغامي، وهو نفسه من التوتسي وواحد من قادة المقاومة، مشروعًا وطنيًا غير مسبوق. لم يرفع شعار “الثأر”، بل قال بصراحة: إما أن نعيش معًا، أو نموت معًا”.

تم تأسيس محاكم “الغاتشاكا” التقليدية، حيث يواجه القاتل أهل الضحية في قراهم، ويعترف، ويطلب الصفح. نعم، لم تكن عدالة تقليدية، لكنها كانت وسيلة لإعادة لملمة مجتمع مكسور.

تم الاستثمار في التعليم، الصحة، التكنولوجيا.. اليوم، تُعد رواندا من أنظف وأسرع الاقتصادات، بالطبع، ثمة انتقادات مشروعة لمستوى الحريات السياسية، لكن لا يمكن إنكار أن رواندا خرجت من الجحيم، لا لتعود إلى الوراء، بل لتُدهش العالم بنهضتها.

المجتمعات التي مزّقتها الكراهية، قادرة على أن تعيد بناء ذاتها.

أما الذين يظنون أن مستقبلهم يمرّ عبر سحق الآخر، فالتاريخ يقول: الطريق ذلك أقصر إلى الهاوية، لا إلى الدولة.

Exit mobile version