رياض سلامة.. من المنقذ إلى المختلس فخلف القضبان

مرصد مينا

سلطت قناة الحرة الأمريكية الضوء على رئيس مصرف لبنان المركزي واضعة اياه ضمن ثلاث من “منقذ مالي” للبنان ورمز للاستقرار الاقتصادي، إلى متهم بالاختلاس والفساد على المستويين المحلي والدولي.. هكذا تحولت مسيرة حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، الذي قضى 30 عاماً على قمة السلطة المالية، قبل أن يصبح موقوفاً خلف القضبان.

النائب العام التمييزي، القاضي جمال الحجار، قرر أمس الثلاثاء، توقيف سلامة بعد استجوابه على مدى نحو 3 ساعات، بشأن “شبهات اختلاس من مصرف لبنان”. وقد ركز التحقيق، كما أوردت الوكالة الوطنية للإعلام، على ملف “أوبتيموم”، وهي شركة لبنانية تقدم خدمات الوساطة المالية.

وعقب قرار توقيف سلامة، صرّح الحجار بأن “الخطوة القضائية التي اتخذت بحق سلامة هي احتجاز احترازي لمدة 4 أيام، على أن يحال بعدها إلى قاضي التحقيق لاستجوابه واتخاذ القرار المناسب بحقه”.

والأربعاء، نقلت وكالة رويترز عن مصدرين قضائيين، أن سلامة، الذي ألقي القبض عليه، الثلاثاء، بتهمة ارتكاب جرائم مالية، سيظل رهن الاحتجاز حتى موعد جلسة استماع “من المرجح أن تنعقد الأسبوع المقبل”.

وأضاف المصدران أنه بعد استجوابه، “يمكن للقاضي الذي يرأس الجلسة أن يقرر ما إذا كان سيبقيه قيد الاحتجاز أم لا”، لافتين إلى أنه “لم يتم اتخاذ قرار بعد بشأن هذا الأمر”.

وعلى مدار سنوات، كان سلامة يعتبر الركيزة الأساسية للنظام المالي اللبناني، لكن مع انهيار الاقتصاد في عام 2019، تغيرت هذه الصورة تماما.

فمع تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية، واجه اللبنانيون فقراً متزايداً، لاسيما مع تجميد ودائعهم في المصارف، وفقدان الليرة اللبنانية أكثر من 95 بالمئة من قيمتها مقابل الدولار، مما أدى إلى سخط شعبي “انفجر” في الشارع على شكل احتجاجات واسعة اندلعت في أكتوبر 2019.

التدهور المالي والاقتصادي الذي شهده لبنان، دفع القضاء اللبناني وعدداً من الدول الأوروبية، إلى فتح تحقيقات حول تورط سلامة في استغلال منصبه لاختلاس المال العام، وبناء ثروة بالفساد.

التقرير المطول لموقع الحرة للصحفية أسرار شبارو  أضاف: تولى سلامة الذي يحمل الجنسية الفرنسية أيضاً، منصب حاكم مصرف لبنان عام 1993، بتعيين من رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، بعد مسيرة مهنية في شركة “ميريل لينش” المالية العالمية، وذلك بعد أن حائز على شهادة في الاقتصاد من الجامعة الأميركية في بيروت.

اعتُبر سلامة “مهندس السياسات المالية” في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية (1975-1990).

ووفق تقرير نشرته صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية في أغسطس 2023 بعنوان “الساحر: رياض سلامة ونهب لبنان”، “اعتمد النظام المالي اللبناني بشكل كبير خلال فترة حكم سلامة على تدفقات رأس المال من دول الخليج والمغتربين اللبنانيين الأثرياء، مستفيداً من قوانين السرية المصرفية”.

وأضاف أنه “لضمان استقرار أسعار الفائدة وتمويل خطط إعادة الإعمار، ثبّت سلامة والحريري سعر صرف الليرة اللبنانية عند 1507 ليرات للدولار، وهو مستوى استمر حتى الانهيار المالي”.

ونجح النظام المالي الذي أشرف عليه سلامة في توفير مستوى معيشي مرتفع للكثير من اللبنانيين، رغم أن الاقتصاد الوطني كان غير منتج. وحصل المدخرون على أسعار فائدة مرتفعة، وتمكنوا من تحويل عملاتهم المحلية إلى الدولار بسعر صرف ثابت، مما عزز ثقتهم في سلامة، خاصة مع نجاح لبنان في تجاوز الأزمة المالية العالمية عام 2008.

ورغم إعادة بناء لبنان خلال هذه الفترة، فإن ذلك تم على حساب الاقتصاد الوطني، فقد تجاوزت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 150 بالمئة، وهي واحدة من أعلى النسب في العالم خلال العقدين الماضيين، كما أوردت “فايننشال تايمز”، مضيف أنه “لُقب بالساحر لقدرته على إبقاء الاقتصاد اللبناني صامداً في مواجهة الصراعات والفوضى السياسية”.

ومع تباطؤ التحويلات بالدولار، زادت الضغوط على نظام مالي يتطلب تدفقات مستمرة من العملة الصعبة للصمود.

وفي عام 2016، لجأ سلامة، حسب وكالة رويترز، إلى سحب الدولارات من البنوك المحلية بأسعار فائدة مرتفعة، وهي خطوة وصفها البنك الدولي بأنها “مخطط بونزي”، حيث تعتمد على الحصول على قروض جديدة لسداد الديون القائمة.

ومع نضوب الدولارات، جُمّدت الودائع بالعملات الأجنبية لمعظم المدخرين، أو أُجبروا على إجراء عمليات سحب بالعملة المحلية وفقاً لأسعار صرف أفقدت مدخراتهم معظم قيمتها، مما أدى إلى انهيار الثقة في النظام المالي الذي أشرف عليه سلامة، حسب رويترز.

 خبراء اقتصاديون اعتبروا أن “إصرار سلامة على الحفاظ على سعر الصرف الثابت بأي ثمن كان أحد الأسباب الرئيسية وراء الأزمة المالية التي عصفت ولا تزال بلبنان”.

يذكر أن سلامة نال العديد من الجوائز والأوسمة العالمية على مدار مسيرته، من بينها جائزة “أفضل حاكم مصرف مركزي في العالم” لعام 2006 من مجلة “يورو موني”، وجائزة مماثلة من مجلة “بانكر” في عام 2009.

تحقيقات وعقوبات

بعد الانهيار المالي والاقتصادي في لبنان، أطلقت سويسرا عام 2020 تحقيقاً في أنشطة سلامة، تلاها في عام 2021 لبنان وفرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ. كما حققت السلطات في موناكو وليختنشتاين وبلجيكا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة في تلك الأنشطة، وفق “فايننشال تايمز”.

وتشتبه هذه الدول بضلوع سلامة في “جرائم اختلاس أموال عامة وتبييض أموال وفساد، بالإضافة إلى تحميله جزءاً كبيراً من المسؤولية عن الأزمة المالية التي أصابت البلاد”.

وفي أغسطس 2023، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية بياناً اتهمت فيه سلامة باستغلال منصبه لتحقيق مكاسب شخصية ضخمة على حساب الشعب اللبناني.

وكشف البيان عن “تورط سلامة في تأسيس عدد من الشركات الوهمية وفتح حسابات مصرفية في أوروبا ومنطقة البحر الكاريبي، مما سمح له بإدارة مخططات مالية معقدة تهدف إلى إثرائه الشخصي بمساعدة أفراد من عائلته وزملائه المقربين”.

أحد أبرز هذه المخططات كان تعاونه مع شقيقه رجا سلامة عبر شركة وهمية مسجلة في جزر فيرجن البريطانية باسم “فوري”، لتحويل حوالي 330 مليون دولار من معاملات مصرف لبنان.

وكجزء من هذا المخطط، وافق رياض سلامة على عقد يسمح لشركة شقيقه بالحصول على عمولة على مشتريات الأدوات المالية من قبل البنوك اللبنانية من مصرف لبنان، على الرغم من أن شركة رجا لم تقدم أية فائدة واضحة لهذه المعاملات، وتجنب العقد تسمية شركة فوري أو مالكها. ثم نقل سلامة ورجا هذه الأموال إلى حسابات مصرفية بأسمائهما أو بأسماء شركات وهمية أخرى.

وانضمت ماريان حويك، المساعدة الرئيسية لسلامة في مصرف لبنان، إلى الثنائي في هذه المغامرة، من خلال تحويل مئات الملايين من الدولارات – أكثر بكثير من راتبها الرسمي في مصرف لبنان – من حسابها المصرفي الخاص إلى حسابات سلامة ورجا.

وقد تم تحويل الأموال المحولة بشكل متكرر إلى عدد من شركات إدارة العقارات في فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ وبلجيكا، التي كانت مسجلة باسم نجل سلامة، نادي سلامة، أو شريكة سلامة السابقة، الأوكرانية آنا كوساكوفا التي لسلامة ابنة منها، وفقا لشهادة ميلاد اطّلعت عليها “رويترز”، واستخدمت تلك الأموال لشراء عقارات فاخرة.

وأشارت وزارة الخزانة الأميركية إلى أن سلامة “استخدم شركات وهمية في بنما، وصندوقاً ائتمانياً في لوكسمبورغ، لإخفاء هويته عند شراء أسهم في شركة عمل فيها ابنه كمستشار استثماري”. ولاحقاً، باع هذه الأسهم إلى مصرف لبناني يخضع لتنظيم مصرف لبنان، مما يشكل تضارباً واضحاً في المصالح وانتهاكاً محتملًا للقانون اللبناني.

على أثر ذلك، أدرجت واشنطن سلامة على قائمة العقوبات، متهمة إياه بالتورط في ممارسات فاسدة وغير قانونية ساهمت في تدهور سيادة القانون في لبنان.

ولم تقتصر العقوبات على سلامة وحده، بل شملت أيضاً أفرادا من عائلته وشركائه. وأكدت الوزارة أن هذه الإجراءات جاءت بالتنسيق مع المملكة المتحدة وكندا، ضمن جهود مشتركة لمحاسبة من يسيئون استخدام مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية على حساب الشعب اللبناني.

أرباح بالمليارات

فيما يتعلق بملف شركة “أوبتيموم”، كشف التدقيق الذي أعدته شركة “كرول”، أن مصرف لبنان قدّم قرضاً للشركة بقيمة 8.6 مليار دولار لشراء سندات خزينة من المصرف نفسه. ومع كل عملية، كان المصرف يعيد شراء السندات من الشركة، مما رفع القيمة الإجمالية إلى 16.6 مليار دولار، وفق وسائل إعلام لبنانية.

نتيجة لهذه العمليات، حققت الشركة أرباحاً بقيمة 8 مليارات دولار، وُضعت في حساب بمصرف لبنان قبل أن تسحب إلى جهة مجهولة. ولم يسمح لشركة “آلفاريز آند مرسال”، المتخصصة في تقديم الخدمات الاستشارية، بتتبع حركة الأموال خلال التدقيق الجنائي.

وأعيد فتح ملف “أوبتيموم” مؤخراً بناءً على تقرير وحدة الأسواق المالية، ودعوى قضائية مقدمة من مجموعة من المدعين بينهم محامون.

وعقب توقيف سلامة، الثلاثاء، انقسم اللبنانيون بين من يرون في هذه الخطوة “بداية جادة لمعالجة قضايا الفساد والشبهات المالية المرتبطة به”، ومن يعتبرون أن الأمر “لا يتعدى كونه مسرحية قضائية ستنتهي بتبرئته”.

يذكر أن الممثلة اللبنانية ستيفاني صليبا، برزت في قضايا سلامة، حيث تم توقيفها عام 2022 من قبل القضاء اللبناني على خلفية تحقيقات تتعلق بشبهات “تبييض أموال وإثراء غير مشروع”، قبل أن يتم الإفراج عنها بعد ساعات.

Exit mobile version