حريق يتلو حريق، والحرائق لاتعني لهيب النيران وحدها، هي احتراق الوعد، احتراق الأمل، انغلاق نوافذ الرجاء، ونتساءل:
ـ ما الذي حصر هذه الحرائق في العراق أولاً، ومن ثم سوريا ولبنان، دون استثناء اليمن (السعيد)، وليس سعيدًا ولا بحال؟
السؤال الثاني:
ـ هل ثمة سوري، لبناني، عراقي اليوم، لم يربط مصيره بكابول؟
هي نكتة أو تبدو هكذا، غير أنها ليست نكتة، هي فاجعة كبرى، تعني فيما تعنيه تلك الفجائع المرتبطة بـ “العالم الجديد” ذاك العالم الذي لابد وينقسم إلى عالمين:
ـ واحد منهوب، وآخر ناهب.
واحد في ذيل التاريخ، والآخر يركب على ظهر التاريخ.
سوريا تعني في الجغرافيا السياسية، ذاك الامتداد على المتوسط، كما الامتداد على الربع الخالي، كما امتدادات هائلة على آسيا الوسطى، لتتقاطع مع تركيا في جغرافية، ستنحسر تركيا إن انحسر دورها في بلاد الشام.
لبنان هي الميناء، وكان لابد من تفجير الميناء، فالمتوسط لايتسع لمينائين معًا، أحدهما في بيروت والأخر في إيلات، ولابد أن توقد النيران في أحدهما ليكون الآخر.. فليكن ميناء بيروت.
وفي العراق، ثمة نفط وثروات، وتاريخ ممتد، وعناد حضاري يسعى ليكون المركز فيما المطلوب كل المطلوب أن يكون طرفًا لمركز وهكذا لابد من حرقه، مرة بالاجتياح الأمريكي الذي اطلق عليه الغزو، والثانية في منحة لايران هبة من الامريكان.
واليوم كل الأنظار إلى أفغانستان، بلاد الجبال الوعرة والناس الوعرون، والسؤال اللاحق:
ـ ما الذي يدفع الأمريكان لتسليم أفغانستان لعسكر طالبان، فيما كل الوقائع تقول أن تكاليف الانسحاب قد لاتقل عن تكاليف الاحتلال؟
في الحالين، الأثمان باهضة، البقاء أو الانسحاب، فكان الخيار الامريكي هو الانسحاب.
أما الأثمان الاشد كلفة فلابد أن تقع على الافغان، تمامًا كما كان الحال في العراق، والمواطنون بلا حول ولاقوة، خاسرون، مهانون، يعودون إلى المغاور في زمن الوصول الى المريخ.
ينسحب الأمريكان فيدخل الحشد الشعبي وأنصار الكهف ويستولون على العراق.
نقرأ لسمير عطالله، كلامًا بالغ الدقة وموجع في آن: “في لؤم ودم بارد، يكرر التاريخ نفسه”. ـ كيف يحدث هذا التكرار؟
الأميركيون يواصلون المفاوضات مع «طالبان» في قطر، ويبدأون الانسحاب من سفارتهم في كابل. ولم تعد «طالبان» تستخدم السلاح في حملتها الضارية، وإنما السلاح الأشد ضراوة: انهيار معنويات الخصم والمسارعة إلى رفع رايات الاستسلام.
لقد انتهى الأمر، والعالم يرى أمامه المشاهد الأخيرة ولا يصدق. إنهم على أبواب كابل. تلك الأبواب التي تبدلت عليها الوجوه والرعايا والقادمون والهاربون. وماذا سيحدث عندما يصبحون خلف الأبواب في قلب العاصمة. وعندما تصبح الجمهورية جمهوريتهم، وتصبح الأسلحة التي تركها الأميركيون، والقوات التي دربوها، تحت إمرتهم؟”
بدائيات الحروب، كما وصفها العالم الاستراتيجي كلاوز فيتز، أن المهاجم يجب أن يؤمن الانسحاب قبل الاحتلال. في حالات كثيرة. خسر الأميركيون الاحتلال والانسحاب معاً، ولقد بددوا نحو 85 مليار دولار على التسليح والتجنيد، من أجل ماذا، وفي سبيل مَن؟
ينوي جو بايدن، إخراج أميركا من منطق الحروب، وسحب قواتها من المناطق التي ذهبت إليها، وسوف يؤدي ذلك إلى حالة من الفوضى والضياع في العالم. وكما حدث يوم سعت واشنطن إلى الحلول محل فرنسا وبريطانيا، سوف تسعى قوى كثيرة إلى الحلول محل أميركا المتراجعة.
بعد سنوات من النسيان والبقاء على الهامش، أفغانستان حلبة دولية من الملاكمين. وسوف تعود إلى يوميات الأخبار أسماء مثل قندهار وهرات، وطبعاً عاصمة الرمال المتحركة والصخور المتساقطة، كابل.
وسوف يتعاطف العالم مع رجل متواضع صادق المشاعر والنيات، آخر رئيس لأفغانستان كما تعرفها. صورة مختلفة تماماً عن سلفه حميد كرزاي والقلنسوات المصممة خصيصاً والعباءات المطرزة بالخيوط اللماعة، كما لو أن الدنيا عرض أزياء من روما التي أحبها. في ربع قرن تنهزم دولتان كبريان أمام إحدى أكبر الدول تخلفاً: روسيا وأميركا. ولم تربح أفغانستان.
ليس حال أفغانستان، المثال في سوريا وفي العراق وغالبًا سيكون في اليمن، أما لبنان، فالحرائق المتتالية لن توصل سوى إلى هذا الاحتمال.
سفيرة أمريكانية تتنقل اليوم ما بين المتخاصمين، وغدًا ما بين المتحاربين، وبعد غد لن يعوزها الانسحاب، وعلى لبنان أن يتحول إلى قندهار.