نبيل الملحم
لنتفق أن النظام استنفذ مبررات وجوده، ولكن علينا أن نتفق كذلك بأنه لم يستنفذ عنفه، فآلة العنف هي خيمة النظام الأخيرة، وهي خيمة بأعمدة صلبة “ميليشيات، أجهزة قهر، وحلفاء يشاطرونه عنفه”، وسيزداد عنفه طرداً كلّما تضاءلت مبرراته من طراز “خدمات، خبز، فرص عمل” والإنفاق على ما تبقّى من حواضن شعبية.
هذا بالضرورة ينعكس على حياة وإرادات الناس في الداخل السوري، فالشجاعة التي يمتلكها “المهاجر”، هي بالنتيجة “شجاعة بتكاليف منخفضة” إن لم تكن بلا تكلفة، فيما الكلمة بالداخل قد يترتب عليها اقتلاع الاظافر والاعناق، وهذا يجعلها على أي درجة كانت “شجاعة ثمينة” و “شجاعة مكلفة”، وأكثر من ذلك هي الشجاعة التي تفتح الطريق لتراكم إذا ما ابتدأ بهموم الرغيف، فلابد وينمو لهموم أكثر جذرية اسمها “اجتثاث القصر”، وهذا ما يجعل من فعل الداخل فعلاً هو الأجدر بالاحترام والاحتواء والتفهم والمواكبة والإسناد.
يظهر صوت من الداخل، فيذهب المتكئون على الأرائك للتشكيك فيه، بما يجعل مَن يده في النار ضحية مرتين:
ـ مرة بفعل النيران المعادية، وثانية بما يمكن تسميته بالنيران الصديقة.
وهذا منتهى العنف، لايوازيه في عنفه سوى عنف النظام، فالقتل المعنوي، حتماً هو أكثر شناعة من القتل البيولوجي، بفارق موقع المقتول وموقع القاتل.
ترفع سقفك وأنت مرتاح، غير أن ترفع سقفك والجدران قابلة بأن تنهار عليك، ففي الداخل السوري، ثمة متواليات من العنف، واحدة تتوالد الأخرى، مجاعة تتلوها هراوة، وحين يكون للناس من مساحة فثمة مساحة بالغة الضيق، سقفها النضال المطلبي، وهو سقف ليس بالقليل بكل الأحوال، سقف قابل للارتقاء يوماً وراء يوم، وإذا كان ثمة مكانة للتاريخ بما يحمل من دروس فالثورة الفرنسية الأم، لم تكن سوى ثورة “جياع”، جياع للخبز اولاّ وللنبيذ لاحقاً، وكان أن أنجبت دانتون وروبسبير، فالاستهانة بالخبز، ليست اكثر من “بطر” يرتكبه “مثقف مقهى”، أو “مناضل كيد لاتأصيل”، وهذا يستدعي ثانية احترام من يده في النار، وتضامن من أيدبهم في بالماء.
يظهر صوت سوري من الداخل، قد لا يلبي خطاب الأرائك، فيأتيه التشكيك من معارضات الخارج، والترهيب من عصابات الداخل ليتضاعف الحصار، ومعه سيكون السؤال:
ـ وانت ترفع صوتك في الخارج، ما الإنجاز الذي ترتب عليه؟
ما الإنجاز وأنت كما وصفك حمد بن جاسم “هوشة على وليمة”، وكلنا يعلم باليقين حجم الفساد ومساحات الترزق من أوجاع البلاد حتى باتت “الثورة حرفة”، و “الثوار بالأجرة”، والأفكار تتقاسمها عواصم وسفارات بل وفي لحظة ما “أجهزة استخبارات”؟
من يصرخ في الداخل أيّ كانت مساحة صراخه فهو يصرخ في وجه النظام، وحين نقول في وجه النظام فهذا الوجه هو :
ـ وجه القتل بكل المعاني.. وجه المقصلة بما تعنيه، ووجه الزنازن التي “من يدخلها مفقود ومن يغادرها مولود”، وقلما خرج منها مَن دخلها، وهي تزداد طرداً كلما تقلّصت مبررات بقاء النظام، ولابد أننا اليوم في ذروة، هي حضيض النظام، بما لم يبق له من مبرر سوى استئصال حناجر الناس.
لغة الأرائك بلا أثمان، لغة الداخل مرتفعة التكاليف، تكاليف بمواجهة نظام لم يبق له سوى استنبات شاربي هتلر ليقيم حفلات شواء للناس.. معسكرات إبادة تطال حتى الرضيع.
سلام لمن يرفع صوته في الداخل السوري.
ألف سلام.