“سوريا البلد المحروق” هو العنوان الرئيسي أما العنوان الفرعي فهو “كتاب آل الأسد الأسود”، والكتاب ووفق مراجعة للبناني زياد ماجد، هو مؤلف ضخم يقع بـ 848 صفحة، في عرضه للكتاب ينبئنا ماجد بأن الكتاب من تأليف كاترين كوكو ونايلة منصور، والحقوقي جويل هوبرشت وقد انضم اليهم الناشر فاروق مدم بك.
أسماء المشتغلين على الكتاب، تغري بالاطلاع على محتواه، فوفق زياد ماجد ” يشكّل هذا الكتاب أوسع تجميع لنصوصٍ تتناول الشأن السوري في ظل حكم الأسدين الأب والابن (منذ العام 1970 وحتى اليوم) وتحلّلُ أحواله وتوثّقها”، كما أنه ، ونعني الكتاب، يريد لنفسه أن يكون مرجعياً في قضايا لم يكن تناولها قبل العام 2011 يسير التداول أو المعالجة الأكاديمية أو الحقوقية أو الصحافية. كما أنه يسعى إلى جعل الكثير ممّا نُشر بعد العام 2011 قابلاً للتبويب والترتيب بما يُكوّن أرشيفاً حيّاً لنكبة ما زالت معالمها ساطعة وتداعياتها قائمة، والأهم والأخطر، ما زالت جرائمها وفظاعاتها على كثرتها قليلة المتابعة القانونية الجدّية (في ما خلا عدداً من القضايا التي باتت أمام المحاكم الوطنية الأوروبية).
ماسبق سيقول أنه كتاب يأتي بمستوى “الضرورة” فالتاريخ الذي لن يكتب اليوم قد لايعثر على من يكتبه غدًا، و”البحث عن الداخل التي تناولت الدولة والمجتمع في سوريا في عهد الأسد الأب قبل اندلاع الثورة ليست كثيرة. فشدّة القمع وتاريخه أغرقت الداخل وأحداثه في ظلام شبيه بظلام المُعتقَلات التي التهمت أعمار عشرات الآلاف من السوريين والسوريات، طلاباً وناشطين سياسيين ومواطنين طالتهم وشايةٌ أو كتبَ مخبرٌ فيهم تقريراً بسبب قولٍ أو مسلك أو شبهة فكرة أو انتماء”.
السؤال هنا، ما لذي تناوله االكتاب؟
الكتاب يحاول ألا يستهلّ تأريخ الداخل السوري من لحظة انكشافه المرويّة والمُصوّرة العام 2011، بل يستعيد نصوصاً قديمة أو يسترجِع ما كان مسكوتاً عنه طويلاً بعد تحرّر الألسنة، فينشر نصوصاً لميشيل سورا ومقتطفات من شهادات ضحايا وجزّارين في حماه وتدمر، ومقاطع من روايات ومقالات لاحقة حلّلت الشأن الطائفي وصِلتَه بالأجهزة المخابراتية ومعنى “التشبيح” وأدواته ولغة الدعاية ومصطلحاتها، إضافة إلى العنف بآلياته وثقافته وممارسته المعمّمة والمُمأسسة.
في عرضه للكتاب يقول زياد ماجد، إن الكتاب جمع أيضاً مرويّات حول الاعتقال وتجاربه في عهدَي الأسدَين، وحول الاغتصاب والتعذيب الممنهج في السجون-المسالخ والقتل والإعدام وإخفاء الجثامين خاصة في السنوات الإحدى عشرة الأخيرة. وأرفق كلّ ذلك بلائحة بالمجازر التي ارتكبها نظام الأسد خلال العقد الماضي وبالأسلحة التي اعتمدها خلال تنفيذ المجازر، مبوّباً الجرائم ومصنّفاً إياها قانونياً ومن حيث خصائص الارتكاب، مع استذكار لتقارير دولية وأرقام ومع إفادات أو نصوص لأفراد شهدوا جرائم أو هي طالت أقاربهم، قتلاً أو إخفاءً أو تعذيبا.
كما عمد الكتاب إلى بلورة أقسام أو فصول حول قصف النظام الكيماوي لغير منطقة سورية، وحول أعمال الإغاثة واستهداف المستشفيات من قبل الطيران الروسي والأسدي، وحول الميليشيات الطائفية والمرتزقة في سوريا، وحول ما أسماه «الفخّ الجهادي» وقواه وفي طليعتها «داعش»، وحول الارتكابات ضد الأزيديين والقضية الكردية وأسئلتها وتطوّر إشكالياتها في السياسة وفي السياق الحربي. وعرض الكتاب كذلك للأحوال الإقليمية والدولية السابقة والمرافقة للصراع ولأدوار روسيا وإيران وتركيا وأمريكا وأوروبا ودول الخليج في هذا الصراع. وأفرد مساحة للحديث عن التدمير المديني والتهجير وعن مصادرة الأملاك بذريعة إعادة الإعمار وعن المعطى الاقتصادي. وخُتم الجهد التجميعي والتوثيقي الكبير بمجموعة مواد حول داعمي النظام في أوساط اليمين المتطرّف الأوروبي وحول دعايتهم أو حول تغييب السوريّين عن المشهد الإعلامي المرئي وأسباب نفي البعض لكمّ الجرائم المرتكبة بحقّهم من قبل النظام وحليفيه الروسي والإيراني.
وفي الكتاب خرائط وأعمال فنّية ورسوم وصورٌ ترافق بعض الفصول وتقدّم بدورها فكرة عن أوجه تعبير وتفكير ورصدٍ موازٍ للكتابات جعلت من المشهديّة وسيلة توثيق تكتفي أحياناً بذاتها، ومن الفنون عامة والتشكيل والكاريكاتور والتصوير خاصة مزيجاً من تجريد وواقع ليس لواحدهما أن يكون بالضرورة أكثر إدهاشاً من الآخر أو أكثر تعبيراً منه عن مواجع وانفعالات. وفي الكتاب أخيراً ملحقات تحتوي كرونولوجيا للأحداث، وثبت بالاغتيالات التي نظّمها الأسدَين في سوريا ولبنان، ولعناوين الأفلام التي ظهرت بعد بدء الثورة ثم اندلاع الحرب.
لماذا التوثيق؟
المؤلَّف الصادر قريباً هو إذاً أبرز مرجع يمكن الركون إليه باللغة الفرنسية للمسألة السورية في الأعوام الأخيرة، وأهمّ سجلّ أسود موثّق للأسدية بما هي منظومة عنف وقتل واغتصاب وتدمير وسطو ممنهج.
ورغم أهمّية الأمر وضرورته، إلّا أن السؤال عن أسباب التوثيق والجمع في مؤلّف واحد بعد كلّ ما قيل ونُشر ونوقِش في الشأن السوري من قبل المساهمين في هذا الكتاب ومعدّيه فرادى وجماعات، وسواهم، يبقى سؤالاً وجيهاً تجدر الإجابة عنه. فثمة انطباعات لدى سوريّين كثر ولدى مراقبين للشأن السوري مفادها أن التقارير والدراسات والمقالات والأفلام والصور وشرائط الفيديو لم تبدّل من تعامل الدول الكبرى مع سوريا، ولم تدفع إلى إدانة نهائية للنظام لا إمكانيات تطبيع من بعدها معه، بل محاكمات لأركانه وعقاب يتناسب مع حجم الانتهاكات التي ارتكبوها وما زالوا.
بالنتيجة، ثمة من تجاوز الكتابات السريعة، الانطباعية الغاضبة، إلى التوثيق والتحليل العميقين، وهما الأحوج لقضية بلد نصفه في المنافي ونصفه في المجاعة والمقابر، ومن ينتظر خلاصه بات ينتظر خلاصه بـ “الانتحار العقلي” أو “الانتحار الجسدي”.
كتاب كهذا يقول لنا:
ـ توقفوا لنقرأ التاريخ برصانة المؤرخ، وبدقة المؤرخ، وبعين التاريخ الذي طالما حدد رؤى المستقبل.