
نبيل الملحم
مع كل مجزرة تُرتكب، تتوطّد حقيقة أن الانهيار سيطال أولاً ذاك “العقد الاجتماعي الهش” الذي بني وطيلة نصف قرن من سطوة الأسدين، على القمع والخوف، ومع هذا الانهيار، يتضاءل احتمال أن تعود سوريا إلى شكلها السابق كدولة مركزية موحدة.. الحقيقة الواضحة في ما تؤول اليه البلاد تقول:
ـ لقد ضاق الوقت، وضاق الأمل.
اليوم، ونحن في عام 2025، لم تعد “سوريا الواحدة” فكرة واقعية لافي الأذهان ولا في والوقائع، ولم يعد الحديث عنها سوى نوع من الحنين، أو شعاراً يُرفع في المحافل الدولية، بينما الأرض مقسمة بين قوى أمر واقع، والناس يتعايشون تحت إدارات متباينة، لا يجمعها سوى الجغرافيا، والطرق المغلقة.
لكن ما يغيب عن كثير من التحليلات السياسية أن أكبر الخاسرين من هذا التمزق الزاحف هم الإسلاميون المعتدلون، وتحديدًا سكان المدن السورية الكبرى، ممن كانوا في قلب نسيج الحياة المدنية الإسلامية الحديثة، هؤلاء ليسوا المتشددين، ولا هم من أركان النظام، بل كانوا الطبقة التي تحملت عبء الحياة العامة: معلمون، تجار، أطباء، قضاة، كتّاب، عائلات متدينة بعقل منفتح وهوية سورية مركبة، يعيشون الإسلام لا شعارًا سياسيًا، بل سلوكًا أخلاقيًا ورؤية ثقافية.
هذا التيار – الذي شكّل نواة الاستقرار الأهلي في مدن مثل حلب ودمشق وحمص – هو الذي تلقى الضربات الأقسى:
أولاً من نظام الأسد الذي واجههم بالقتل والاعتقال، ونهب مواردهم، لأنهم لم يكونوا جزءًا من شبكته الأمنية أو طائفته السياسية.
والآن، ومن بعد سقوط الأسد، من الفصائل المتطرفة التي اختطفت الثورة، ففرضت عليهم إسلامًا غريبًا مشوّهًا، تكفيريًا، عابرًا للحدود والهوية.
وأخيرًا من الشتات والاغتراب، إذ خسروا الجغرافيا واللغة والعلاقات، فباتوا عالقين بين ماضٍ لم يعد ومكان لا ينتمي إليهم.
وهكذا، أصبح الإسلام الحضاري المعتدل، الذي تأسس في سوريا على مدى قرنٍ من التراكم، ضحية بين مطرقة الاستبداد وسندان التطرّف، وبينهما سيف التمزق الذي لا يرحم.
في ظل البلقنة الزاحفة، حيث تنكمش كل جماعة على ذاتها، وتُعيد تعريف نفسها ضمن حدود طائفية أو عرقية ضيقة، ما مصير هؤلاء؟
أين سيجد السوري السني المدني، غير المؤدلج، الذي لا ينتمي لفصيل ولا يحمل سلاحًا، مكانه؟
هل سيكون لاجئًا أبديًا في إسطنبول، أو عمّان، أو برلين، أم أن المدن السورية – بما تبقى منها – ستُغلق في وجهه لأن هويته باتت عبئًا على كل الأطراف؟
لقد تم تفريغ المدن السورية من نخبتها المدنية الإسلامية المعتدلة، كما فُرغ العراق من طبقته المتوسطة المتعلمة بعد الاحتلال، وكما انكمش الإسلام التونسي المعتدل بعد الصراع على هوية الدولة.
ـ والنتيجة؟
ليست فقط سياسية أو جغرافية، بل ثقافية وقيمية أيضًا.
لقد فُقد الوسيط التاريخي بين الدولة والمجتمع، بين الحداثة والتقليد، بين الدين والسياسة.
أمام هذا المشهد، تبدو الدعوات إلى “سوريا واحدة” وكأنها طوق نجاة ألقيَ بعد غرق السفينة.. نعم، الحنين مفهوم، والأمل مشروع، لكن الواقع لا يرحم، لقد ضاق الوقت بالسوريين، ليس لأنهم لا يريدون الوحدة، بل لأن الدماء التي سالت، والخيانات التي وقعت، والجرائم التي ارتُكبت، جعلت الثقة بين المكونات ميتة أو على وشك.
قد تبقى سوريا كاسم في خرائط الأمم المتحدة، لكن واقعها الممزق يقول إن البلقنة ليست احتمالًا، بل مسارًا يتكرّس يومًا بعد يوم.
وإذا ما حدث ذلك فعلًا، فإن الخسارة الكبرى لن تكون في الأرض، بل في المعنى؛ في غياب تلك الطبقة التي كانت تعرف كيف تُصلي وتصنع وتبني وتسامح في آن معًا.
الصورة تقول:
سيحتاج السوري للتنقل ما بين زقاق وزقاق إلى تأشيرة دخول.
وقد لا تجد من يمنحها.