
صندوق المرصد
لم يعد المشهد السوري محصورًا في حرب مفتوحة بين نظام ومعارضة، أو بين سلطة ومعارضة مسلّحة، لقد انزلقت البلاد إلى طورٍ أخطر.
هنا لا تُسفك الدماء فقط من أجل السلطة، بل من أجل وهم الهوية الصافية، و”الانتماء المقدّس” الذي يرفع شأن الجماعة ويُلغي الآخر.
في هذا المناخ، تنتعش الشوفينيات المذهبية والقومية، ويجد الجميع أنفسهم، بمقادير متفاوتة، أسرى تلك الروح التي تُحوِّل الخوف إلى حقد، والاختلاف إلى خيانة، والجماعة إلى معسكر مغلق لا يرى في الخارج إلا عدوًا يجب سحقه.
ولعل الأخطر، أن هذه الفاشية ليست حكرًا على طرف واحد.. إنها تتوزّع بين الجميع، كلٌّ على مقاسه وحجم سلطته ونفوذه.. البعض يمارسها على نطاق الدولة، والبعض الآخر على نطاق الفصيل أو الطائفة. النتيجة واحدة:
ـ تفتيت ما تبقّى من بلد، وخلق أجيال لا ترى في التعايش سوى وهْمٍ من الماضي.
إنّ سوريا اليوم أحوج ما تكون إلى صوتٍ يعيد الاعتبار لفكرة المواطنة، قبل أن تُبتلع تمامًا في جحيم الهويات القاتلة.. ليست الوطنية هنا شعارًا فارغًا، بل صرخة إنقاذ:
ـ أن يكون السوري مواطنًا، لا تابعًا لطائفة، ولا رهينةً لشعارٍ إيديولوجي.
وإذا كان قدر البلاد أن تمرّ في هذه المحنة العميقة، فإن مسؤولية النخبة ـ السياسية والفكرية والإعلامية ـ أن تُعيد تعريف الممكن:
ـ كيف نخرج من معسكرات الفاشية الصغيرة والكبيرة، لنستعيد فكرة الدولة التي لا تقتل أبناءها، بل تحميهم جميعًا دون تمييز؟
إن التاريخ قاسٍ حين يكتب عن الشعوب التي استسلمت للأحادية والعصبيات، لكنه أكثر رحمة مع الشعوب التي قاومتها بوعيٍ وإصرار. واليوم، الخيار لا يزال مفتوحًا:
إما أن تُكتب سوريا كأرضٍ للقتل المتبادل، أو تُكتب كوطنٍ يحاول أن يُعيد ترميم نفسه من تحت الركام.