مرصد مينا – بروفايل
بدأت وفيات المشاهير والشخصيات المؤثرة في المنطقة العربية والشرق الأسط، منذ الأيام الأولى من العام الجاري، حيث أعلن بتاريخ 3 كانون الثاني الماضي، مقتل قائد فيلق القدس الإيراني، “قاسم سليماني”.
في ما يلي يعرض مرصد مينا أبرز المحطات في حياة أكثر مسؤولي النظام الإيراني إثارة للجدل في الدول العربية، لا سيما في ظل اتهامه بالتورط في مقتل عشرات الآلاف في كل من سوريا والعراق واليمن.
الولادة والنشأة
ولد “سليماني” في 11 آذار عام 1957، من عائلة فقيرة جداً في إحدى قرى محافظة كرمان الإيرانية، ما اضطره في سن الـ 13، للعمل في مجال البناء، بهدف تسديد الديون، التي كانت متراكمة على أسرته، خاصةً وأن فقر والده منعه من تسديد قروض حكومية، ما هدده حينا بالسجن.
بداية شبابه، وفقاً للمصادر التاريخية، لم تشهد انخراطاً بالأعمال السياسية، وإنما كان متجهاً إلى إكمال تعليمه، الذي توقف عند المرحلة الإعدادية، وممارسة الرياضات القتالية، وهو ما لعب بشكل أو بآخر دوراً كبيراً فيما بعد بتطرفه الديني وولائه لولاية الفقيه والثورة الإسلامية.
خلال ممارسته للرياضة في إحدى الصالات، التقى “سليماني” بخطيب وداعية متجول يسمى “حجة الله خامياب”، والذي كان في ذلك الوقت، أحد أشد اتباع المرجع الشيعي، “علي خميني”، وهو ما ساهم في تشبّع عقل ووعي سليماني بحلم الثورة الشعبية الإسلامية وقناعته بمبادئها وأهدافها والانخراط فيها.
إلى جانب دور “خامياب”، لعبت الطبيعة الديمغرافية متعددة الأعراق لبلدة روبر الجبلية، التي ولد فيها “سليماني” دوراً أيضاً في إذكاء الانتماء والأفكار القومية والشعبوية لديه، وفقاً لمصادر تاريخية إيرانية، حيث تضم البدة مزيجاً عشائريا وقبلياً متشابكاً.
ما بعد الثورة ليس كما قبلها.. وأولى قطرات الدم
العام 1979، وأعلان استيلاء “خميني” على الحكم في إيران، كان له وقع خاص في حياة “سليماني” حيث تحول حينها الرياضي السابق، إلى أحد أشد الضباط في النظام الجديد، وأكثره من تلطخت يديه في الدماء، خاصةً وأن المهام الأمنية الموكلة إليه بدأت بعد الثورة مباشرة.
مع الأيام الأولى من عمر دولة “خميني” الوليدة، انخرض “سليماني” في الحرس الثوري الإيراني، وكان حينها يبلغ من العمر 22 عاماً، ليتلقى تدريبات عسكرية محدودة، قبل ن يلتحق بالقطع العسكرية التابعة للجهاز الذي تحول فيما بعد إلى يد النظام الطولى ضد معارضية ودول الجوار.
أولى مهام “سليماني” القمعية، كانت من نصيب الأكراد في مدينة مهاباد، في الشمال الغربي من البلاد، حيث أوكل له مع مجموعة من مقاتلي الحرس الثوري، مهمة قمع تحرك كردي بدأ في العام 1980، والذي خرجت فيه عشرات المناطق الكردية عن سيطرة النظام الوليد لعدة أشهر متتالية.
حجم الولاء الذي أظهر “سليماني” حينها خلال قمعه للتمرد الكردي، ساهم في لمعان اسمه لدى القادة الجدد، لا سيما وأنه استعاد السيطرة مجدداً على كافة المناطق الكردية، ما دفع القيادة الإيرانية إلى ترفيعه استثنائياً إلى رتبة ملازم، كمكافئة له على قمع مهاباد.
حرب العراق وبداية لمرحلة جديدة
الحرب العراقية – الإيرانية، بدورها كانت منعطفاً جديداً في حياة “سليماني”، بعد أن تم استدعاءه ليكون أحد الضباط على جبهة الحدود مع العراق، عام 1980، وهي الحرب التي كان “سليماني” من أكبر المستفيدين منها، بعد أن حقق ترقيات عسكرية سريعة خلالها، والتي وصلت إلى قيادة ما يعرف بفرقة ثأر الله.
ومع نهاية الحرب، التي استمرت 8 سنوات كان “سليماني” قد تحول إلى واحدٍ من أقوى 10 قادة عسكريين إيرانيين في الفرق العسكرية الإيرانية، ما سرع لاحقاً من ترقيه واتساع مساحة نفوذه، وصولاً لأن يكون رجل إيران الأقوى عسكرياً.
من الخارج إلى الداخل
بعد نجاحه في عدة عمليات خلال الحرب العراقية الإيرانية، تحول نشاط “سليماني” إلى الساحة الداخلية، لتثبيت نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، ليعين قائداً للحرس الثوري، حيث كانت مهمته إرساء قواعد الأمن وقمع الاحتجاجات أو التحركات، التي قد تنطلق ضد النظام.
أما الدور الأبرز له في قمع الاحتجاجات، فقد كان عام 1999، حيث كان “سليماني” ضابطاً من بين 24 آخرين، هددوا بقمع ثورة الطلاب ضد نظام الرئيس الأسبق، “محمد خاتمي”، كما هددوا بتنفيذ انقلاب عسكري والإطاحة به، حيث كان حينها “سليماني” قد عين فعلياً على رأس فيلق القدس، عام 1998.
حزب الله وما وراء الحدود
على الرغم من أن “سليماني” قد انشغل بالعديد من المهام داخل الحدود الوطنية الإيرانية، إلا ان ذلك لم يمنع ممارسته لنشاط خارجي، حط رحاله في لبنان البعيد، حيث أكدت مصادر تاريخية أن “سليماني” مع استلامه لمنصب قائد فيلق القدس، تحول إلى المهندس الفعلي لسياسات حزب الله في لبنان والمشكل الأول لهيكليته العسكرية، وطريق تعاطيه مع الملفات السياسية، خاصة وأن الفيلق يعتبر القوة العسكرية لإيران خارج الحدود.
مع خروج جيش النظام السوري من لبنان ، عام 2005، أصبح “قاسم سليماني” المحرك الوحيد للأحداث للبنان، وتعمق دوره في إدارة الملفات السياسية، حيث تتهمه بعض المصادر بالوقوف وراء عملية اغتيال “رفيق الحريري”، التي أخرجت سوريا من لبنان وفكت “نصر الله” من قيد المخابرات السورية، لتصبح كلمة إيران هي الأعلى في البلاد.
كما تشير بعض المصادر اللبنانية، إلى ما حدث في أيار 2008، من احتلال مقاتلي حزب الله لبيروت كان مخططاً من قبل “سليماني”، الذي أراد إظهار القوة العسكرية للحزب داخل لبنان، كما تحمله مسؤولية الكثير من الاغتيالات التي حدثت في لبنان في تلك الآونة. ويصف محللون علاقة سليماني بالأمين العام لحزب الله، “حسن نصر الله” بأنها الخاصة جداً.
العراق إلى جانب لبنان وثأر لم ينس
اسقاط نظام “صدام حسين” في العراق، عام 2003، مثل بدوره فرصة أمام “سليماني” بشكل شخصي، لتحقيق عدة أهداف، أولها الثأر من المدن العراقية على خلفية الحرب مع العراق، وثانيها فتح الباب أمام التمدد في المنطقة العربية، وثالثها ضم العراق إلى جانب لبنان لسيطرة الجنرال الإيراني.
مثل “سليماني” بعد 2003، حلقة الوصل بين الميلشيات المدعومة من إيران في الشرق الأوسط والنظام الإيراني، حيث كان المشرف الأول على الميليشيات العراقية، التي أنشأ معظمها في إيران قبل إسقاط النظام، وانتقلت إلى القتال داخل العراق بعد 2003.
كما أشارت مصادر تاريخية إلى أن “سليماني” كان عراب المواجهات الدامية والحرب الطائفة التي اندلعت في العراق، عام 2006، والتي نفذت خلالها ميليشيات فيلق بدر وجيش المهدي والعديد من الميليشيات الأخرى جرائم حرب على خلفيات طائفية، لافتةً إلى أن كل تلك الميليشيات تتحرك بحسب توجيهات من طهران.
وتعاظم دور “سليماني” في العراق خلال فترتين لاحقتين، الأولى مع الانسحاب الأمريكي عام 2010، وتحول الميليشيات إلى سلطة نفوذ مسلح كبيرة جداً، والثانية في 2014، مع دخول تنظيم داعش إلى مناطق في العراق، وقيادة “سليماني” لعمليات الحشد الشعبي ضده.
يشار إلى أن أحد الضباط السابقين في مكتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق، “نوري المالكي”، قد اتهم الأخير “وقاسم سليماني” و”هادي العامري” بالتواطؤ مع تنظيم داعش لدخول تلك المناطق ومنحهم فرصة لاستخدام الميليشيات للسيطرة عليها، كما تتهم منظمات حقوقية دولية “سليماني” والميلشيات بارتكاب جرائم حرب ضد السكان في تلك المناطق.
وفي 1998 تم تعيينه قائدا لقوة قدس في الحرس الثوري خلفا لأحمد وحيدي وهي وحدة قوات خاصة للحرس الثوري الإيراني، ومسؤولة عن عمليات خارج الحدود الإقليمية.
قيادة قوة القدس
لا يعرف التاريخ الدقيق لتعيينه قائدا لقوة القدس في الحرس الثوري الإيراني ليس واضحا، إلا أنّ علي آلفونه يذكر أنه بين 10 سبتمبر 1997 و 21 مارس 1998. وكان يعتبر أحد الخلفاء المحتملين لمنصب قائد الحرس الثوري الإيراني، عندما ترك الجنرال يحيى رحيم صفوي هذا المنصب في عام 2007. وقاد سليماني مجموعة من المحققين الإيرانيين الذين يبحثون عن وفاة عماد مغنية عام 2008. كما ساعد سليماني في التوصل إلى وقف إطلاق النار بين الجيش العراقي وجيش المهدي في شهر مارس 2008.
وعقب هجمات 11 سبتمبر 2001، توجه ريان كروكر، وهو مسؤول رفيع المستوى بوزارة الخارجية الأمريكية، إلى جنيف للقاء الدبلوماسيين الإيرانيين الذين كانوا تحت إشراف سليماني بهدف التعاون لتدمير طالبان التي استهدفت الشيعة الأفغان. وكان هذا التعاون مفيدا في تحديد أهداف عمليات القصف في أفغانستان وفي القبض على عناصر القاعدة الرئيسية، لكنه انتهى فجأة في يناير 2002 عندما سمى جورج دبليو بوش إيران كجزء من “محور الشر” في خطابهِ عن حالة الاتحاد.
في 24 يناير 2011، تمت ترقية سليماني إلى رتبة اللواء من قبل المرشد الأعلى علي خامنئي. يوصف خامنئي بأنه على علاقة وثيقة معه، ودعا سليماني “شهيدا حيا”.
وكان يوُصف سليماني بأنه “المنفذ الوحيد الأقوى في الشرق الأوسط” والاستراتيجي العسكري الرئيسي والتكتيكي في محاولة إيران لمكافحة النفوذ الغربي وكذلك كان يعتبر “أقوى مسؤول أمني في الشرق الأوسط”.
ووفقا لبعض المصادر، فإن سليماني هو الزعيم والمعماري الرئيسي للجناح العسكري لحزب الله الشيعي اللبناني منذ تعيينه قائدا لفيلق القدس في عام 1998.
سوريا وثورة 2011
نظراً لخبرته الكبيرة في قيادة الميليشيات في الشرق الأوسط وقدرته على التحدث بالعربية ومعرفته الواسعة بدول المنطقة، أوكل النظام الإيراني “لسليماني” مهمة قيادة الميليشيات الإيرانية في سوريا، دعماً لنظام “بشار الأسد”، في مواجهة الثورة السورية، التي انطلقت عام 2011.
وخلافاً لما أحرزه في العراق ولبنان، لم يتمكن الجنرال “سليماني” من تغيير الواقع العسكري في سوريا، وإنما حال من تقدم المعارضة السورية أكثر، لا سيما وان المعارضة المسلحة خلال السنوات الخمس الأولى من الثورة قد سيطرت على أكثر من 70 بالمئة من مساحة البلاد.
وظهر “سليماني” خلال سنوات الثورة السورية في عدة جبهات قتال، خاصةً في المناطق الشرقية والجنوبية والساحلية، حيث كان وقتها وحتى دخول الجيش الروسي على خط الحرب السورية، القائد الفعلي للعمليات العسكري في سوريا، كما أنه اتهم أيضاً بارتكاب مجازر طائفية بحق السوريين في العديد من المناطق، التي دخلتها الميليشيات.
الوفاة.. غاب العراب فانهارت أحجار الدومينو
في الثالث من كانون الثاني، كان خبر مقتل “سليماني” بغارة أمريكية، مدوياً في المنطقة العربية والعالم ككل، إلا أن الأثر الحقيقي لتغييب “سليماني” على النفوذ الإيراني، قد ظهر بشكل كبير بعد أسابيع من الاغتيال، وتحديداً في الساحتين اللبنانية والعراقية، حيث عانت الميليشيات العراقية من حالة تفكك بدأت تنذر بانشقاقات داخلها، خاصة مع ظهو رما يعرف بعتبات الحشد، بالإضافة إلى تصاعد الخلافات بين قادة الميليشيات.
وعلى الساحة اللبنانية، فقد أثر غياب “سليماني” على وضع الحزب ككل، خاصةً وأنه كان يعتبر مهندس الحزب وسياساته، ليزداد وضع الميليشيات سواءاً في ظل ضعف خليفته، “إسماعيل قاني” وعجزه عن تغطية فراغ “سليماني”.