مرصد مينا
سيكون ما قبل “طوفان الأقصى” غير ما بعده، هو الأمر هكذا، وقد يكون الإسرائيليون أكثر دراية واحتساباً لهذا، فالصدمة الإسرائيلية بدت هائلة أقله إذا ما طالعنا “يديعوت احرونوت”، الصحيفة الأكثر استقراء للحال الإسرائيلي، فهذا محررها ناحوم برنياع يستعيد الصورة.
وفق “برنياع” فإن العائق المحيط بغزة كلف ثلاثة مليارات ونصف المليار شيكل: من فوق الأرض، من تحت الأرض، جساسات، كاميرات، وكله آخر كلمة. يتابع برنياع “في يوم الأمر، مع نشوب الحرب، انهار وأصبح سوراً من ورق. ليس العائق هو المذنب؛ الناس هم المذنبون”.
يتابع الحكاية “قال لي أحد المسؤولين عن إنشائه. أمس بعد الظهر، رفع سلاح الجو 40 طائرة من أنواع مختلفة فوق العائق، كل الوقت، كي يسد المعبر من غزة إلى إسرائيل ومن إسرائيل إلى غزة. كان الجهد بطوليا، والتأخير فظيعاً”.
يطلب الجيش الإسرائيلي في هذه اللحظة وضع التقصير جانباً. يجب ترك رئيس الأركان والجنرالات ليركزوا على القتال، أما التحقيقات فستأتي لاحقاً. “صمتاً، يطلقون النار” هذا ما يقوله برنياع، ثم يعود لما كتبه زميله عميرام نير الراحل في بداية حرب لبنان الأولى. فلو نجح الجيش الإسرائيلي في تطهر جيوب المخربين في بلدات غلاف غزة، فسوف تكون المهام التي سيتصدى لها في الأيام القادمة معقدة وكثيرة المتطلبات، خصوصاً مشكلة المخطوفين في غزة، ومشكلة الردع تجاه الساحات الأخرى. يجب أن تدار الحرب برأس نقي، وكل ما تبقى أقل إلحاحاً”.
لكن الإعفاء الذي أعطي للجنود لا يتضمن ملايين الإسرائيليين الذين تابعوا، ودهشوا وتخوفوا، هذه الحرب التي لم يعدّهم لها أحد. في نظري، كانت 7 أكتوبر 2023 إهانة عظمى، إهانة لم يشهد لها الجيش الإسرائيلي مثيلاً في كل سنواته. وسأشرح: الإهانة الأولى كانت استخبارية. مرة أخرى، مثلما في 1973، رأت المنظومة كل المؤشرات الدالة لكنها استنتجت بغرورها بأنها مجرد مناورة وتدريبات عابثة؛ الثانية، والكلام مازال لبرنياع “كانت السهولة التي تجاوز فيها مخربو حماس العائق؛ الثالثة كانت السهولة التي عادوا فيها إلى غزة، مع عشرات الرهائن؛ الرابعة البطء الذي رد به الجيش الإسرائيلي على التوغل. يتجول عشرات المخربين في معسكر مدرعات وكأنهم يتجولون في بيوتهم ولم توجد مروحية هجومية تطلق عليهم النار”.
يتابع برنياع “ستقولون: قصور يوم الغفران كلف عدداً أكبر بكثير من الضحايا، بلا تشبيه. هذا صحيح بالطبع، لكن في غفران 1973 واجهنا أكبر الجيوش العربية، وليس منظمة إرهاب من الدرجة الثانية. وخرج من الحرب الأليمة إياها سلام صامد حتى اليوم، بعد 50 سنة من وقف النار. من الصعب أن نرى الخير الذي سيخرج من الحرب الحالية”.
فضلاً عن التفاصيل، كانت الدهشة مما بدا كسلسلة طويلة من التقصير. أعترف: شعرت فجأة بأني لا أعيش في إسرائيل التي أفتخر بها، بل في الصومال”.
كلام بالغ الخطورة ما يقوله الرجل، فأن يتحوّل مواطن “دولة التكنولوجيا ومخزن السلاح” إلى “صومال”، فهذا يشير إلى حجم الإحباط التي يعيشها مواطن إسرائيل، وكانت دولته قد حصدت عشرات الفرص من أجل تلافي هذه المواجهة، وبالنتيجة كانت الفضاءات مفتوحة لها لتكون واحدة من دول المنطقة دون هذا الإحساس بالغرق في الهزيمة، كان ذلك سيحصل لو اتخذت من معاهدات السلام فرصة لتنزع عن نفسها صفة “الدولة الدينية” لتُنتج خصمها من نوعها، ونعني “حماس”، دون النظر إلى القدرات العسكرية فتلك القدرات يمكن تحاوزها إذا ما بات الصراع ما بين “قوّة الآلة” وقوة الانتحار.
الحرب في أيامها الأولى، والبوارج الامريكية على بوابات المتوسط، وكل ما تبقّى هو “الوقت”.
وقت قد تغرق فيه إسرائيل أكثر واكثر، أما عن غزة فهي “الغارقة” مرتين:
ـ مرة بسلطة حماس، وثانية بالضربات الإسرائيلية وبكل ما يحمله السلاح.