ضحايا الاغتيال.. من يعيد إماتة الموتى؟

نبيل الملحم

عندما خرجت من الباب نحو الحرية، كنت أعلم أنني إن لم أترك مرارة الكراهية خلفي، فسأظل في السجن.

ـ هذا الكلام لمن؟
لنيلسون مانديلا، رسول الحريات الأسود، وقد تحوّل بلونه إلى راية حرية لمقهوري هذا العالم.

بعبارته تلك، لخّص مانديلا واحدة من أعقد الأسئلة التي تواجه الأمم الخارجة من الحروب والانقسامات العميقة، كما أجاب عن السؤال الأهم:
ـ هل يمكن للغفران أن يكون أكثر ثورية من الانتقام؟ وهل يمكن للعدالة أن تتجلى من دون سجون جديدة ولا مقاصل جديدة، بل بمصارحة تُنصف الضحايا دون أن تبتلع المستقبل؟

في جنوب أفريقيا، حيث جُرحت البلاد بجريمة الفصل العنصري، لم يكن الغفران قرارًا فرديًا أو خطبة مناسبة، بل كان مشروعًا وطنيًا، يقوم على مواجهة الماضي لا دفنه.

حدث هذا لحظة وضع مانديلا شرطًا أخلاقيًا للصفح:
ـ أن تُقال الحقيقة علنًا، أن يُسمّى المجرم باسمه، وأن يُسمع صوت الضحية.
مع مانديلا، لم يكن العفو مكافأة، بل بديلاً للثأر، ووسيلة لكسر حلقة الانتقام.

لكن حين نأتي إلى سوريا، نجد منطقًا مختلفًا يُمسخ فيه كلّ من العدالة والمصالحة معاً.. منطقان يمسخان العدالة، أولهما بالثأر، والآخر بمحو مالا يُمحى ونعني “لعنة الدم” وحقوق الضحايا.

في سوريا اليوم، يُحبَس منطق العدالة بين فكي كماشة، من جهة أولى، سلطة تزعم أنها “عفت”، دون أن تعترف، ودون أن تُسائل أحدًا من رموز جرائم الأمس، وتطالب الضحايا أن ينسوا، أن يتأقلموا، وأن يُطبعوا مع ذاكرة مشوّهة.. هذا “العفو” لا يُنصف الضحية، ولا يؤسس لسلام أهلي، بل يُجهّز لجرائم لاحقة، لأنه لا ينبع من المساءلة بل من تعالي الحاكم على دم الضحايا.

ومن جهة ثانية، ثأر شعبي ينمو في النفوس، لا يفرّق بين القاتل والمأمور، ولا بين الآمر والمنفذ، ويهدد بتكرار الكارثة لكن بأدوار مقلوبة.

وبين هذين المنطقين، تتعطل العدالة الانتقالية التي لا تبحث عن انتقام، ولا تبيع الغفران، بل تسعى إلى إعادة توازن مفقود بين الجلاد والضحية، بين ما يجب أن يُقال وما لا يجوز أن يُنسى.

هنا سيكون السؤال، وهو سؤال بات متكرراً مع كل بث تلفزيوني أو لقاء عابر في مقهى رصيف:
ـ من يملك الحق في الغفران؟
السؤال الجوهري بصيغة أخرى:
ـ من يملك أن يغفر؟

أمّا الإجابة فالبديهي أن تكون “لا الحاكم يملك ذلك، ولا المجتمع الدولي، وحدهم الضحايا وأهاليهم يملكون قرار الصفح، إن اختاروا ذلك، وأي عفو لا يمرّ من بوابة الضحية، هو تواطؤ ضد العدالة، لا خطوة نحو السلام”، وهذا ليس منطق القوانين الأرضية وحدها، بل هذا حال الضمير الإنساني، بل والشرائع الدينية كذلك.

حال كهذا يقتضي أقله الاهتداء بتجارب آخرين ممن تذوقوا ويلات الدم، ولقد سبقتنا شعوب إلى الهاوية، وسبقتنا أيضًا في الخروج منها. لسنا أول أمة ينهشها الاستبداد، ولا أول شعب يتمزق بالحرب. لكن الفرق بين من ينهض ومن يظل غارقًا، هو الاعتراف بجهلنا وحدود تجربتنا، والجرأة على النظر في مرايا الآخرين.

في رواندا، تحولت القرى إلى ساحات مصارحة، حيث اعترف القتلة بجرائمهم أمام جيرانهم، وصدرت بحقهم أحكام ليست انتقامية، بل تأهيلية، لأن الدولة قررت أن تقطع حلقة الدم لا أن تدفنها تحت السطح.

في تشيلي والأرجنتين، استغرقت العدالة وقتًا طويلاً، لكن القتلة مثلوا في النهاية أمام المحاكم، لأن المجتمع لم يقبل أن يُخدّر ذاكرته.

أما نحن، فنعيد اختراع الإنكار، متكلين على الزمن بأن يُشفي، غير أنه (وأعني الزمن)، لا يُراهَن عليه أن يشفي، فهناك أمم طال نزيفها قرونًا لأنها دفنت الجريمة دون أن تحاكمها.. وحدها الإرادة الجماعية التي تقول “لن ننسى… ولكن لن نثأر”، تستطيع أن تبني وطنًا لا يقوم على المقابر، بل على سرد الحقيقة وكرامة الإنسان.

إن أردنا لسوريا أن تخرج من جحيمها، فعلينا أن نستلهم مانديلا لا في خطابه فقط، بل في شجاعته بأن يعفو دون أن يبرّئ، وأن يُصافح دون أن يُغلق ملفات الجريمة.

غير أن الصورة لا تبشّر، فهذه البلاد المنكوبة، لم تفتقد في سنواتها العاصفة إلى من يرفع السلاح، ولا إلى من يرفع الشعارات، لكنها افتقدت إلى رجل واحد يشبه مانديلا، يُقنع الجراح أنها ليست برنامجًا سياسياً، بل قضية نجاة إنسانية.

في زمن الخراب، تلمع الحاجة إلى رجل يشبه مانديلا؛ لا ليحكم، بل ليُشفى به وطنٌ مريض بالثأر والإنكار. سوريا تبحث عن هذا الرجل، أو هذه الفكرة، ولم تجدهما بعد.

أو ربما: يُشتَغَل على تغييب هذا الرجل.. طمسه، وقد يصل بنا الخراب إلى الاغتيال، فإن ليس برصاصة طائشة فـ :
ـ بالاغتيال المعنوي.

Exit mobile version