سيرافق أحداث طرابلس اللبنانية سؤالاً بالغ الجدية:
ـ هل تتسع دائرة الاحتجاجات لتطال لبنان كل لبنان؟
الطبيعي أن تكون الإجابة بالإيجاب، فمتظاهري طرابلس خرجوا الى الشوارع بعد أن ضاق بهم رغيف الخبز، وبات اللقمة عصية على التحقق.. خرجوا لأن الدواء بات المستحيل الثامن بعد أن أضيف لاستحالات من بينها العنقاء، وخرجوا بعد أن تفشى الفساد وسيطر حتى بدت “كورونا” أكثر رحمة من الفاسدين.
فاسدو المصارف، وفاسدو الأحزاب، وفاسدو البرلمان، وفاسدو القصر الرئاسي، وفاسدو الوزارة الذين يشتغلون على المحاصصة في بلد لم يعد لها حصة من الحياة سوى انتظار موتها.
خرجوا إلى الشارع، وليس بلا تكلفة، فقد شُيّع يوم الخميس الفائت جثمان الشاب عمر طيبا البالغ ثلاثين عاما، وكان أكثر من 220 شخصاً، بينهم عدد من قوى الأمن، أصيبوا في اشتباكات عنيفة دارت الأربعاء، لليلة الثالثة على التوالي.
المواجهات اندلعت بعد الظهر عندما رمى عشرات الشبّان الحجارة وقنابل المولوتوف والمفرقعات باتّجاه عناصر القوى الأمنية التي استخدمت الغاز المسيل للدموع بكثافة وخراطيم المياه لتفرقتهم، في مشهد تكرّر في اليومين السابقين.
بعدها حاول حشد من المحتجّين الغاضبين اقتحام مبنى السراي، مقرّ محافظ المدينة، بينما تجمّع آخرون في ساحة النور، أحد أبرز ميادين الاعتصام خلال الاحتجاجات الضخمة التي شهدها لبنان ضدّ الطبقة الحاكمة في خريف 2019.
أدان سياسيو الحكم هجوم المتظاهرين على السرايا الحكومي، واتهموهم بالتخريب.. تخريب المنشآت العامة، وكأن السراي الحكومي منشأة عامة، وليست مغارة للناهبين وقد سكنوها عبر ثلاثين سنة من النهب.. النهب الممتد بلا رحمة.
أشعل المتظاهرون مخافر الشرطة، فاحتج السياسيون على المتظاهرين باعتبار المتظاهرين أحرقوا منشآت عامة، وكأن مخافر الشرطة منشآت عامة لا حرسًا لمن نهب كل ماهو عام في البلاد.
امتدت المواجهات في طرابلس، وطرابلس لمن لايعلم هي ثاني كبرى مدن لبنان، كانت أصلاً إحدى أفقر مدن البلاد حتّى قبل أن يتفشّى وباء كورونا وزاد من إفقارها فرض تدابير إغلاق عام في محاولة لوقف تفشّي الجائحة، كما لو من سيموت جوعًا سيارعي أن لايموت بالكورونا.
ووجد قسم كبير من سكّان المدينة، ولا سيّما عمال اليومية، أنفسهم بدون أي دخل منذ دخلت حيّز التنفيذ إجراءات الإغلاق العام.
وبالإضافة إلى الوضع الصحّي شبه الكارثي، غرق لبنان في أسوأ أزمة اقتصادية منذ نهاية الحرب الأهلية (1975-1990) إذ انخفضت قيمة عملته إلى مستوى غير مسبوق وتضاعفت معدّلات التضخّم في البلاد واضطرت شركات عديدة إلى القيام بعمليات تسريح جماعية لموظفيها.
وبات نصف سكان لبنان الآن يعيشون تحت خط الفقر، في حين أن الطبقة الحاكمة متّهمة بعدم الاكتراث بمشاكلهم.
وبعدما كانت حركة الاحتجاج ضدّ تدابير الإغلاق العام تقتصر على مدينة طرابلس لوحدها، امتدّت شرارة الاحتجاجات يومي الثلاثاء والأربعاء إلى مدن أخرى حيث قطع متظاهرون بعض الطرق.
وفي العاصمة بيروت، أضرم متظاهرون النار في إطارات سيارات أمام جدار يفصل ساحة رياض الصلح في وسط المدينة عن مقرّ البرلمان، بينما أغلق آخرون طريق المدينة الرياضية بحاويات القمامة والإطارات المشتعلة، بحسب ما ذكرت الوكالة الوطنية للإعلام.
كان لبنان قد شهد حركة احتجاج غير مسبوقة في خريف 2019 ضدّ الطبقة الحاكمة المتّهمة بالفساد وانعدام الكفاءة وعدم الاكتراث. وخفّت حدّة الحركة الاحتجاجية تدريجياً قبل أن تتلاشى تماماً مع تفشّي كوفيد-19 وتدابير الإغلاق العام المتتالية التي فرضتها السلطات.
ولا يزال لبنان من دون حكومة منذ آب/أغسطس العام الماضي، بسبب عدم توصل الأحزاب الحاكمة إلى اتفاق، على الرّغم من تعرّضها لضغوط محليّة وإقليمية ودولية قوية.
كل ذلك يحصل، فيما صراع الضباع مازال دون رحمة.. صراع على من سيستأثر بما تبقى من البلد.
جنرال كسيح في قصر بعبدا محكوم للصهر الطامح لأخذ البلد إلى سرير زوجيته، ورئيس وزارة مكلف يكسدر ما بين العواصم حاملاً التكليف بجيبه لايعتقه ولا يستثمره، ورئيس برلمان ليس من الاجحاف القول بأنه “الأزعر” وقد بات حكيمًا للزعران.
بلد يحترق.. ما الذي تبقى أمام ناسه سوى أن يخلعون ما تبلقى من ثيابهم لإطفاء الحرائق.
ستمتد.. لن تتوقف عند طرابلس، فقد تساوى الكل في الجوع، وبات الرغيف حصانًا يركض أمام الجائعين ولا سبيل للحاق به سوى بـ :
ـ كسر حوافره.