fbpx

عبد العزيز الخيّر.. الغائب الذي لا يغيب

كان الخبر قد جاء على لسان مذيع في راديو مونتي كارلو: مساء اليوم الأول من شباط عام 1992، وفي سوق الحميدية المزدحم في العاصمة السورية دمشق، ألقت دورية من فرع فلسطين يقودها المقدم عبد الكريم…..  القبض على المطلوب الأول في رابطة العمل الشيوعي، الدكتور عبد العزيز الخير واقتادته إلى جهة مجهولة”، وأضافت الاذاعة لخبرها:” العملية التي تمت بوشاية من أحد الرفاق الحزبيين”.

أبو المجد، وكان هذا لقبه المتداول قيد إلى زنزانة منفردة، أمضى فيه شهرين من ذاق خلالها أقسى وأمرّ أشكال التعذيب، وخضع خلالها للتحقيق على يد أعتى وأشرس ضباط الاستخبارات السورية اللواء علي دوبا رئيس المخابرات العسكرية، والعميد مصطفى التاجر والعقيد عبد المحسن هلال بعدها أحيل الى المحاكمة، وأية محاكمة؟

هي المحاكمة التي تصدر حكمها بروح الثأر لا بمنطق العدلة، فكان أن أصدرت محكمة أمن الدولة عام 1995 وبشخص قاضيها فايز النوري حكماً بالسجن لمدة اثنين وعشرين عاماً، بتهم: “الانتماء لجماعة سياسية محظورة” و “نشر أخبار كاذبة من شأنها زعزعة ثقة الجماهير بالثورة والنظام الاشتراكي” و ” مناهضة أهداف الثورة”. ليقضي الطبيب والشيوعي حكمه في سجن صيدنايا العسكري. وهو الحكم الأقسى في تاريخ سوريا في حق رجل لم يحمل السلاح ولم يدعُ إليه يوماً.

عبد العزيز الخيّر ينتسل إلى آل الخير أكبر عائلات مشايخ العلويين في القرداحة، مسقط رأس الرئيس السوري حافظ الأسد. وهو من مواليد عام 1951 تنقل مع والده سليمان الذي كان مديراً للنفوس في عدة مدن سورية من بينها درعا وحمص وتلكلخ وغيرها، وقد يكون انتساب الدكتور الخيّر لعائلة مرموقة وذات شأن في الطائفة العلوية التي ينتسب اليها حافظ الأسد، واحدًا من الأسباب التي قادت حافظ الأسد إلى ممارسة أقصى أنواع التشفي بعبد العزيز، وهو ما يدركه الثير ممن ينتمون الى هذه الطائفة.

عبد العزيز الخير، التحق بكلية الطب البشري في جامعة دمشق، و تخرج منها طبيباً عام 1976 و قد أمضى حياته الجامعية ناشطاً طلابياً من الطراز الأول، أيقن عبد العزيز باكراً أن الطب و العمل في الفضاء العام كل واحد لا يمكن فصله، خصوصًا في مرحلة تجاوز فيها نظام حافظ الأسد كل الأعراف الآدمية بالتعاطي مع الشعب، حيث كان برفقة أخيه رفعت الأسد قد حوّلوا البلاد  إلى زنزانة مفتوحة، ونهبوا من جامعة دمشق روح الطلبة، وفتحوا الجامعة لكل الممارسات الفظيعة بدءًا من لإفساد وصولاً الى الاغتيال ومن بين الشخصيات التي قاموا باغتيالها آنذاك كان رجل القانون وفقيهه الدكتور محمد الفاضل.

بعد تخرجه من الجامعة، مارس عبد العزيز الخير مهنته كطبيب لمدة خمس سنوات إلى أن تمت ملاحقته واعتقاله.

غير أنه وفي مرحلته الجامعية كان قد التحق برابطة العمل الشيوعي. الحزب المحظور رسمياً في سوريا.. ليصبح قيادياً بارزاً في هذا الحزب ورئيساً لتحرير صحيفة “النداء الشعبي” وهي الصحيفة الأكثر شعبية وتوزيعاً وانتشاراً في سوريا في أوائل الثّمانينات وعضو هيئة تحرير مجلة “الشّيوعي” وعضو هيئة تحرير “الراية الحمراء” والنّشرات الثلاث كانت تصدر عن حزب العمل الشيوعي في سوريا. ومن الممكن اعتبار عبد العزيز الخيّر الرجل الأول في حزب العمل الشيوعي لمدة عشر سنوات 1982-1992.

ترقى عبد العزيز تدريجياً في سلم الرابطة الشيوعية، وإن كانت مناصبه الحزبية بقيت طي الكتمان نظراً لسرية العمل في دولة بوليسية من الطراز الأول. ويمكن القول بأنه بعد عام 1981 أصبح الرجل الأول في رابطة العمل الشيوعي، والمطلوب الأول لدى أجهزة المخابرات السورية من بين كل طلاب اليسار والعلمانية والاشتراكية في هذا البلد.

بقي عبد العزيز متخفياً طوال عشرة أعوام. وهي من أطول الفترات التي يقضيها ملاحَقٌ متخفياً في تاريخ سوريا. لم يشاهده فيها أهله أو رفاقه في الحزب إلا فيما ندر، ولم يظهر “أبو المجد” حينها إلا في اجتماعات حزبية ضرورية وملحة لبحث قضايا محددة. أنجز في فترة التخفي هذه أهم أعماله لا سيما تحريره للمنشورات الثلاث “الشيوعي” و “الراية الحمراء” و “النداء الشعبي” والأخيرة هي الصحيفة الأكثر انتشاراً في سوريا الثمانينات. كما ألف مجموعة من الكراسات والأوراق الفكرية، ولا سيما كتابه “الكتاب الأسود” الذي تحدث فيه عن قضايا القمع والإرهاب في سوريا في فترة حكم الأسد، والذي غدا فيما بعد مرجعاً لكثير من المنظمات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان.

كما أصدر نشرة “عرس الدكتاتورية” باسم حزب العمل الشيوعي بعيد إعادة انتخاب حافظ الأسد لولاية جديدة. وأصبح “أبو المجد” في هذه المرحلة الرجل الذي يؤرق الدولة! وأصبح الوصول إليه أولوية قصوى.

كان الفرع المسمى بفرع فلسطين هو الفرع المكلف بملاحقة عبد العزيز وكان المقدم عبد الكريم الديري وهو واحد من أشرس محققي هذا الفرع قد كلف بمهمة واحدة: القبض على عبد العزيز الخير بأي ثمن كان.

المقدم الذي أصبح مفرغاً لهذه المهمة لم يكن يستيقظ إلا ليبدأ بالبحث عن طريدته، وطيلة عشرة أعوام من البحث عن “السراب”، أيقن أنه لا سبيل لإيجاده إلا بالوصول إلى الشبكة الضيقة المحيطة به، فقرر أن يبحث عمن يتكفل له “بوشاية” توصلهم إلى من عجزوا عن الوصول إليه. فكان أن اعتقلت المخابرات السورية بعض إخوة وأقارب عبد العزيز وممارسة كل أشكال التعذيب بحقهم بغرض الضغط عليه وابتزازه، فقد اعتُدي على شقيقته (الأستاذة الجامعية سلمى) بالضّرب وسط الشارع العام في مدينة اللاذقية واعتقل شقيقه النّقابي والأستاذ الجامعي هارون وشقيقته ندى وابن عمه، وزوجته المدرسة منى صقر الأحمد التي اعتقلت (وهي أم لطفل في السابعة من عمره آنذاك) كـ ”رهينة” لأكثر من أربع سنوات (آب/أغسطس 1987 ـ كانون الأول / ديسمبر 1991 )

وبعدها كانت الوشاية وكان الاعتقال، ليكون للمعتقل رواية بقدر ما تنبؤ عن فظاعة ووحشية آل الأسد ومنظومتهم البوليسية، تنبئ عن صمود وصلابة رجل قلّما يشهد التاريخ مثالًا يشبهه.

في المعتقل، كان عبد العزيز الخير طبيب السجن الوحيد، ويعرف كل من شاركه الزنزانة أنه عالج ما يزيد عن 100 ألف حالة داخل السجن، وهو الذي أقنع إدارة السجن بتخصيص أحد الغرف لعلاج المساجين نظراً لعدم وجود أي رعاية صحية لائقة لهم. وهو الذي كانت وصيته الدائمة لزواره “أي دواء!”.

في شتاء 2001 تم إطلاق سراح كافة رفاق عبد العزيز الخيّر المحكومين على تهمة حزب العمل الشيوعي وبقي عبد العزيز وحيدا في السجن. أطلقت المنظمة العربية للدفاع عن حرية الصحافة والتعبير حملة دولية للإفراج عن عبد العزيز الخير بالتنسيق مع معهد الصحافة الدولي في فيينا، ولجنة ”كتاب في السجون” التابعة لاتحاد الكتاب العالمي، وتبنى قضيته العديد من المنظمات الدولية والإقليمية، مثل منظمة العفو الدولية و هيومان رايتس ووتش ثم اللجنة العربية لحقوق الإنسان التي تأسست في العام 1988. أفرجت السلطات عن عبد العزيز الخيّر بموجب عفو رئاسي في نهاية العام 2005.

أفرج عن عبد العزيز غير أنه لم يتأخر كثيراً عن معاودة نشاطه السياسي، فأعاد وصل الخيوط التي انقطعت مع الرفاق قبل الاعتقال، وأسس عبد العزيز الخير تجمع اليسار الماركسي في سوريا (تيم) بتاريخ 20/4/2007 بالتعاون مع العديد: من رفاقه اليساريين في سوريا وضم التجمع

– حزب العمل الشيوعي في سوريا

-الحزب اليساري الكردي في سوريا

-هيئة الشيوعيين السوريين

-التجمع الماركسي- الديموقراطي في سوريا

– لجنة التنسيق لأعضاء الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي.

مع انطلاقة الثورة السورية 2011 انضم عبد العزيز الخير هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي في سوريا التي ضمت 14 حزباً سياسيا و4 تجمعات حزبية والعشرات من المستقلين ورموز المعارضة السورية وتم الاعلان عن تأسيسها في 30/6/2011 والتي أصبح مسؤول العلاقات الخارجية فيها عام 2011.

أعلن عبد العزيز عبر موقعه في “هيئة التنسيق” صراحة إيمانه بثورة الشعب السوري السلمية، ودعا دائماً إلى الحفاظ على المسار السلمي للثورة وعلى طابعها الشعبي والأهلي، رافضاً تحويلها إلى ثورة مسلحة مع ما يعنيه ذلك من تمزيق للمجتمع الأهلي السوري ودخول للبلد في دوامة للعنف لا يمكن لأحد التنبؤ بنتائجها. متفهماً في ذات الوقت أسباب حمل السلاح عند كثير من أبناء الوطن ممن قتّلوا وهجّروا واستبيحت كراماتهم ودماؤهم. وذلك جنباً إلى جنب مع المطالبة الصريحة بإسقاط النظام بكل رموزه كمدخل أساسي لأي عملية سياسية يمكن أن تجري في البلد. عبد العزيز كان لديه هاجسان أكبر من كل شيء: التدخل العسكري الأميركي في سورية، وموضوع التطييف والعسكرة، حيث إنه القائل عن الثورة “إذا تعسكرت تطيفت”.

احتجز عدة مرات خلال الثورة السورية ليعاد إطلاق سراحه، إلا أنه اختطف بتاريخ العشرين من أيلول 2012على حاجز للمخابرات الجوية على طريق مطار دمشق الدولي بعد عودته من رحلة إلى جمهورية الصين ضمن وفد من هيئة التنسيق الوطنية، ونفت السلطات الرسمية اعتقاله وصرحت بانها لا تعرف مكان تواجده، وقالت زوجته انها فور اعتقاله أتصلت بوزير المصالحة الوطنية علي حيدر وأكد لها انه لا يعلم عن الأمر شيئاً وأن عبد العزيز في حال كان معتقل فسيخرج خلال ثلاثة أيام إلا انه لم يخرج، والتزم بعدها بنفي علم السلطات السورية عن مكان وجوده. وأفاد ناشطون أنه معتقل في سجن سري ضمن مطار المزة العسكري تشرف عليه المخابرات الجوية.

المناضل / الطبيب وابن العائلة الاكثر حضورًا في وجدان الساحل السوري مازال مختفيًا.. هل فتك النظام بالرجل أم تركه في ظلام الزنزانة شاهدًا وشهيدا؟

سؤال مازال يبحث عنه السوريون ثوارًا وجمهورًا.

هو السؤال الذي مازالت اجابته في طي كتمان نظام طالما تكتّم عن مصائر آلاف المعتقلين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى