ذات يوم، صرخ الشاعر العراقي العظيم بدر شاكر السياب:
ـ وفي العراق جوع.
وكان العراق يوم صرخته بلد النهرين وستة ملايين نخلة كما بلد البحبوحة بكل مقاييس البحبوحة، غير البحبوحة تنأى عن بلد يقع في قبضة دكتاتور يقوده من حرب إلى حرب، ويحيل مواطنه إلى إما سجينًا، وإما متحسّبًا للسجن، حاله حال جارته سوريا وقد حكما بـ “عقيدة البعث” وقد تدنت من “أمّة عرربية واحدة” إلى “مادون القبيلة” لتنتهي بلدًا تحت الاحتلال، وما بعد الاحتلال إلى شوارع مقابل شوارع، المتجاور فيه متناحر.
كل ذلك ومن بعده تأتي الطبيعة لتستكمل ماصنعته أيدي حكامه، وهاهي التحذيرات اليوم تتواصل من التغير المناخي والجفاف الذي سيضرب قريباً العديد من الدول حول العالم، وبينما يظن ملايين الناس والعراقيون من بينهم.
الجفاف وشح المياه يهدد ملايين العراقيين، وأراضيهم الزراعية، ومشهد “غزلان الريم” وهي تنفق بات مشهدًا مألوفًا في العراق، فقد بات مشهد الجفاف يطال مناطق مختلفة سواء في دهوك (شمالاً) أو محافظة ذي قار جنوبي البلاد، وفي المشهد تربة متعطشة، وأنهارا منحسرة.
فيما تداول العديد من العراقيين على مواقع التواصل خلال اساعات الماضية تلك الصور المحزنة، والتي تدق ناقوس الخطر.
منظر جوي يظهر بقايا قرية غاري كسروكة المغمورة بالمياه ، والتي هُجرت في عام 1985 وعادت إلى الظهور جزئيًا مؤخرًا بعد انخفاض كبير في منسوب المياه في سد دهوك بسبب الجفاف ، في مدينة دهوك شمال العراق
كما بيّن تصوير جوي بالقرب من سد دهوك، بقايا قرية غاري كسروكة التي عادت إلى الظهور جزئيًا مؤخرًا مغمورة بالمياه، إثر انخفاض كبير في منسوب السد بسبب الجفاف، بعد أن هُجرت عام 1985، بحسب ما أفادت وكالة فرانس برس.
فقد استفحل الجفاف في أكثر من 70 قريةً جنوب العراق وسط صيف حار من دون مياه.
وتسبّب الانخفاض الكبير في مياه نهر الفرات بجفاف بعض روافده وحرمان ثلث محافظة الديوانية جنوباً مما يكفيها من المياه للاستخدامات اليومية فيما توقفت عشرين محطة تصفية للمياه عن العمل.
بينما بات العديد من السكان في تلك القرى ينتظرون مرور صهاريج الماء التابعة للمحافظة، مرةً أو مرتين في الأسبوع، لتزويدهم بما يعوّض القليل من النقص الذي يعانون منه.
يشار إلى أن العراق أضحى بسبب الارتفاع المستمر في درجات الحرارة وتزايد نقص المياه من عام لآخر، بين أكثر خمس دول في العالم عرضة لتأثيرات التغير المناخي، وفقا للأمم المتحدة.
كما واجه “بلاد الرافدين” مؤخراً انخفاضاً كبيراً في مستوى مياه نهري دجلة والفرات، وهو ما تعزوه السلطات العراقية إلى سدود تبنيها إيران وتركيا.
وفيما لا يزال نهر الفرات جارياً ويعبر الديوانية، إلا أن بعض “الأنهر الفرعية التي تعاني من الجفاف شحت بشكل رهيب، ما انعكس سلبا على عشرات القرى، لقد أصبحت “الهجرة المناخية أمراً واقعاً في البلاد”، بحسب ما أكد تقرير لمنظمة الهجرة الدولية نشر في آب/أغسطس.
فحتى آذار/مارس 2022، نزحت أكثر من 3300 عائلة بسبب “عوامل مناخية” في عشر محافظات في الوسط والجنوب، والسبب “شحّ المياه، أو الملوحة المرتفعة فيها، أو نوعية المياه السيئة”.
كذلك، عرقلت قلّة المياه إنتاج المحاصيل أو أدت إلى إفسادها، وحدّت من وفرة مياه الشرب والغذاء للمواشي، كما أرغمت العديد من الأعمال المرتبطة بالزراعة على الإغلاق.
تحالفت الطبيعة مع الفساد، وكان الفساد قد امتد إلى العراق بعد أن غادرت الدكتاتورية البلاد، فصارت العراق:
ـ بلد العطش.
عطش لبلد النهرين.
ثمة تراجيديا مضاعفة، فلكل نهر تراجيدياته.
مشهد يستحضر السيّاب من قبره وبصوته:
و تراجع الطوفان لملم كل أذيال المياه
و تكشف قمم التلال سفوحها و قرى السهول
أكواخها و بيوتها خرب تناثر في فلاه
عركت نيوب الماء كل سقوفها و مشى الذبول
فيما يحيط بهن من شجر فآه
آه على بلدي عراقي : أثمر الدم في الحقول
حسكا وخلف جرحه التتري ندبا في ثراه