السمة الأساسية التي رافقت صعود “حزب البعث” إلى السطة في سوريا، كانت على الدوام توطيد أركان “الدولة البوليسية”، ومع استيلاء حافظ الأسد على السلطة عام 1970 عبر انقلاب عسكري مدجج بالخوف والسطوة، نقل سوريا من “الدولة البوليسية”، إلى “الدولة البوليسية مع عبادة الفرد”، بما جعل السلطات، جميع السلطات تؤول إليه بدءًا من “اتحاد النساء”، وصولاً الى المدراس الابتدائية حيث سيكون لزامًا على تلاميذ المدارس تأمل صورته على كراريسهم وكتبهم المدرسية.
هي دولة الفرد، التي تتناسل منها القوانين والشرائع، وقد ألغت المجتمع برمته، حتى بات “مجلس الشعب” يوصف بمجلس رفع الأيدي بالموافقة، وترافق كل ذلك مع حملات بوليسية طالت “الأمّة” كل الأمّة، وهي الصيغة التي ورثها بشار الأسد الابن، بفارق الفارق ما بين زمنين:
ـ زمن الحرب الباردة التي صعد فيها نجم الرئيس الأب، مدعومًا بالأنظمة الأوليغارشية على امتداد العالم.
وزمن “الجنرال انترنيت”، حيث الثورات الملونة وانهيار جدار برلين، والهزائم المتلاحقة االتي أصابت الأنظمة الشمولية بارتداتها على العالم العربي وسقوط منظومات أنظمة “الفرد الإله”، وقد انتصبت المشانق لآلهة، ماكان لها أن تدرك مصائرها بالتأمل في تطورات العالم ومستجداته، غير أنها التقطت مصائرها عبر الأنشوطة التي التفت حول رقابها كما حال صدام حسين والقذافي والانهيارات الكبرى في أنظمة من طراز اليمن إلى السودان فتونس، وكانت “الثورة السورية”، واحدة من ثورات، هي المتحوّل الذي لم يلتقطه بشار الأسد، وقد كُبّل بزمن أبيه، ما أفضى إلى حرب سورية، زاد ضحايها عن مليون قتيل، وستة ملايين مشرد، ودمار مدن، وتحويل السكان إلى الفقر المدقع، وكان الرئيس الابن قد اتكأ في كل ذلك على قوتين:
ـ قوّة جيش تحوّل من ثكناته إلى حروب الأزقة، مع شحن طائفي كان قد تمادى.
ـ قوّة حلفاء دوليين وإقليميين، تعبيرهما في روسيا وإيران.
بعد عشر سنوات من الحرب، لم تنتصر ثورة الشعب على الفرد، فيما لم يتبق “للفرد” من سلطة سوى حراسة مقعده، وحياته وعائلته، وكان ذلك بتلازم أمرين معًا:
ـ أولهما انهاك الجيش ومن ثم تشظيه إلى مرجعيات متعددة، منها “جيش موال للروسي” وآخر “موال للإيراني”، وجيش ثالث، هو جيش الميليشيات والعصابات وفلتان السلاح، ما أفظى إلى سقوط سطوة الرئيس على الجيش وقد بات الجيش جيوشًا.
ـ وثانيهما، إنهاك الحلفاء، وصراعهما، فالحرب طالت، وتضخمت تكاليفها، وبات على النظام اليوم دفع فاتورة الحرب التي تعني بيع البلد، وأيّ بلد؟
بلد مدمّر، ومن يشتري الدمار؟
في الحسبة النهائية، بات على الروسي العمل على انتشال ما يمكن انتشاله من الدمار فكان له المرفأ والسواحل، وكان على الإيراني أن يتمدد في بازار العقارات المدمّرة، تسديدًا لتكليف حربه.
وفي الحالين، لا الإيراني المنهك في اقتصاد بلاده قادر على متابعة تكاليف حربه في سوريا، ولا الروسي سيكون رابحًا من الاستنزاف الذي تسببت له به الحرب السورية.
بالمحصلة كان على الروسي العمل الحثيث على وضع حدّ للحرب والتجوّل في الخيارات بحثًا عن صيغة لتسوية سورية ـ سورية، توقف تداعيات ما تبقى من خسائر، أما الإيراني، فلابد له من بيع الأمريكان صفقة عنوانها “بشار االأسد”.
ـ خذوه، وخففوا حصاركم عن طهران.
وهاهي اليوم تتبدّى ملامح تسوية سورية ـ سورية، وبرعاية دولية لابد وأن للروس مقعدًا فيها، وهي تسوية لو أفرج عنها في 2011 لوفرت على السوريين الدمار، ووفرت على بشار الأسد لعنة التاريخ التي سترافقه باعتباره:
ـ الأكثر دموية والأكثر حماقة.
فما هي تفاصيل التسوية؟
في المتسرب من المعلومات، فثمة ما يفيد بأن التسوية تقوم على تسع محددات هي:
• أولا:
ـ تعديل صلاحيات الرئيس. (نأتي لتفاصيلها لاحقًا).
ـ تحقيق توازن بين السلطات (يعني ضمنًا تقليص صلاحيات أجهزة الاستخبارات).
ـ ضمان استقلال مؤسسات الحكومة المركزية / الإقليمية (يعني ضمنًا القبول بالكونفدرايات).
• ثانيًا:
ـ ينبغي أن يقود الحكومة رئيس وزراء ذو سلطات قوية.
ـ تحديد واضح للصلاحيات بين رئيس الوزراء والرئيس.
ـ تعيين رئيس الوزراء والوزراء لايعتمد على موافقة الرئيس (مايعني إسقاط النظام الرئاسي).
• ثالثًا:
استقلالية القضاء، بما في ذلك إبعاد السلطة الحالية للرئيس عن رئاسة المجلس القضائي الأعلى (ما يعني رفع وصاية الرئيس عن القضاء وهيمنته على المؤسسة القضائية).
• رابعًا:
ضمان الرقابة المدنية على الأجهزة الأمنية والعسكرية ووضع حدود للإفلات من العقاب على أعمال الأجهزة الأمنية (مايعني كسر الرداء الواقي الذي يرتديه الرئيس).
• خامسًا:
إجراء إصلاحات على المواد التي تحكم الانتخابات بما في ذلك استبعاد القيود المفروضة على الترشح.
• سادسًا:
وضع اطار انتخابي انتقالي يلبي المعايير الدولية.
• سابعًا:
على الأمم المتحدة أن تطور سجل ناخبين كاملاً وعصريًا ووفق معايير متفق عليها تمكّن جميع السوريين من المشاركة (هذا يفضي ضمنًا إلى اشتراك المهجّرين بالانتخابات، وما من مهجّر يقبل بعودة بشار الأسد إلى السلطة).
• ثامنًا:
تمكين هيئة الامم المتحدة من ضمان اجراء انتخابات حرة ونزيهة.
• تاسعًا:
مصادقة االامم المتحدة على نتائج الانتخابات.
بعد ذلك ما الذي سيتبقّى لبشار الأسد من الحكم؟
هو مشروع يعني القاء (الرئيس ) إلى العراء، وبذات الوقت، وضع حد للخراب السوري، بما يسمح للسوريين باعادة إعمار بلدهم، وهو الإعمار الذي قد يتطلب زمنًا يساوي ضعف زمن ما استغرقته الخراب.
معلومات تفيد بأن الروس سيكونون داعمين لهذا المشروع، ولكن ماذا لو مارس بشار الأسد عناده ورعونته في رفض المشروع.
في المثل العربي ثمة من يقول:
، من رفع الحمار إلى المئذنة لابد قادر على إنزاله.
والروس الذين رفعوا بشار الأسد، لابد ولديهم ما يكفي من الأدوات لإنزاله.
إنزاله حيًا، أو إنزاله قتيلاً.. لن يشكل الأمر فارقًا لدى السوريين.