
صندوق المرصد
في أعقاب الحرب الأخيرة، يبدو أن خريطة القوى في الشرق الأوسط تشهد تحوّلًا جذريًا.
لبنان، الذي طالما شكّل حزب الله ذراعه الردعية في وجه إسرائيل، بات اليوم منزوع السلاح، مهزوزًا بعد هزيمة ثقيلة. حماس، ومعها غزة، لم تخرج فقط منهارة عسكريًا، بل مصابة بكسور سياسية واجتماعية عميقة.
فيما السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع تجري مباحثات سرّية مع إسرائيل برعاية أمريكية، على أمل الوصول إلى “سلامٍ” يُنهي عقود العداء.
من حيث الشكل، قد يبدو المشهد تبشيرًا بسلام قادم، أو على الأقل بتسويات تضع حدًا لواحدة من أطول النزاعات في العالم المعاصر. ولكن من حيث الجوهر، نحن أمام سلامٍ يُبنى على أنقاض قوة مكسورة لا على عدالة تاريخية، وعلى تسويات تُمنح لا تُنتزع.
أبرز ما يتسرب من هذه المفاوضات يُفيد بأن إسرائيل لن تعيد الجولان إلى سوريا، وهو ما يُفرغ أي اتفاق من محتواه السيادي.
فكيف يمكن لسوريا جديدة أن تدخل مرحلة سلام بينما أراضيها المحتلة لا تزال تحت نير الاحتلال؟ وكيف يمكن لشعوب المنطقة أن تصدّق أن صفحة جديدة قد فُتحت، بينما الجرح لا يزال مفتوحًا دون اعتذار أو تعويض أو عودة للحقوق؟
السلام، في جوهره، ليس مجرد وقف لإطلاق النار أو إقامة علاقات دبلوماسية، بل هو استعادة للكرامة، وضمان للحقوق، وتحقيق للعدالة. وما يجري حاليًا هو تسوية تشبه الخضوع أكثر مما تشبه السلام. تحقّق فيها إسرائيل ما عجزت عن تحقيقه بالقوة الصريحة: اعترافٌ إقليمي واسع دون مقابل حقيقي.
قد تحقق هذه التسوية هدوءًا مؤقتًا، وقد تمنح الولايات المتحدة ورقة انتصار دبلوماسية في زمن تراجع الهيمنة، لكنها لن تُنتج استقرارًا طويل الأمد. لأن شعوبًا كاملة لا تزال تحمل في ذاكرتها الجماعية صور الاجتياح والقتل والنزوح، ومادام الحل لا يلامس الجذر، سيظلّ أي سلام هشًا، قابلًا للانفجار في أي لحظة.
لقد تغيّرت المعادلة الإقليمية، نعم، لكن تغيير موازين القوى لا يعني تغيير الحقائق التاريخية. والجولان ستظل سورية حتى لو وقّعت ألف معاهدة. وغزة ستظل جرحًا نازفًا في ضمير الإنسانية. ولبنان، رغم ضعفه الحالي، قد يُفاجئ الجميع كما فعل في مراحل سابقة.
إن المطلوب اليوم ليس مجرد “سلام”، بل سلام حقيقي، لا سلام المنتصر على المهزوم، بل سلام المتساوين، سلام يُعيد الحقوق، لا يُشرعن الغصب. وأي شيء دون ذلك، ليس سوى هدوء يسبق العاصفة.