بالهمس لا باللمس، وبالتلميح لا بالتصريح، وبطلب العطف لا بكلام حاسم ينهي ميشال عون مرحلته الرئاسية، فما بين اليوم ومازال “فخامة الرئيس”، وبين الغد حيث سيكون “الرئيس السابق”، ظهر ميشال عون مخاطبًا اللبنانيين بـ “أحبائي”، وكمن يشكو حاله إلى الله، يشتكي على حزب الله، ويشتكي معه الحليف الشيعي نبيه بري.
اللبنانيون كانوا بانتظار “الكلام الواضح”، وهو “نكون أو لا نكون”، وما أن أنهى الرئيس خطابة المنتظَر، المختصَر، حتى زفر اللبنانيون بـ “تيتي تيتي، مطرح مارحتي جيتي”، فالرئيس “الجنرال”، حكى بلغة أقرب لمتسابق خجول في واحد من برامج التوك شو، عدّد الرجل المشاكل التي يقع فيها هذا البلد، وأبرزها:
ـ المسألة الدفاعية، وقال بأنها من اختصاصات الدولة، وهو يعني بذلك “الدولة” التي تعني “الجيش”، دون أن تبلغ به الجرأة على القول بنزع سلاح “حزب الله”.
ـ وسأل عن منطق تعطيل مجلس الوزراء، ولم يقل أن وزراء “حزب الله” كما وزراء أمل هم من يعطلون الوزارة.
ـ وأكد على أفضل العلاقات مع الدول العربية، وتحديداً دول الخليج، ولم يحك بالصراحة المطلوبة عن “قوات حزب الله” في اليمن، و “كبتاغون حزب الله في السعودية”، ومجازر “حزب الله” في سوريا.
حكى دون أن يحكي، كما لو ان خطابه واحد من فوازير برامج رمضان، في الوقت الذي يتطلب فيه هذا البلد المنكوب، أن يتجه رئيسه إلى الكلام الحاسم، الذي يسمي الأشياء باسمائها، وكان أن وعد جمهوره بذلك، دون أن يحقق وعده، فيما بدا الرجل وكأنه يتقدم بنعوة للعهد، ليكون هو الجنّاز والجنازة والمعزين معًا، مع أن كلمته تجاوزت 1300 كلمة، مع النقاط التي لم تظهر، والفواصل التي امتلأ بها الخطاب عبر اللعثمة ومساوئ النطق، وعوامل الشيخوخة التي أحاطت بفخامة الرئيس.
الرئيس، بدأ حياته السياسية “مقاومًا” حسب منطوقه، ومنطوق جماعته، ولابد أنه وتياره توّرط في لقاء “المقاومة العونية”، مع “المقاومة الإسلامية”، وانساق معها حتى ابتلعته، دون النظر وعبر مرحلة طويلة، إلى الافتراق الكبير ما بين المقاومتين:
ـ المقاومة التي تعني استقلال لبنان عن التجاذبات وعن التبعية، وعن الارتهان، بما فيها التبعية لسوريا، ومن بعدها إيران.
ـ والمقاومة التي تعني تحويل لبنان كل لبنان إلى ضاحية من ضواحي طهران، لاينقصها لاستكمال مشروعها سوى فرض الجزية على مسيحيي لبنان وبقية طوائفه بمن فيها الطائفة السنية المغلوبة على أمرها.
هذا يعني افتراق المقاومتين، إن عاجلاً أو آجلاً، وما التفاهم ما بين “العونية والإسلامية” سوى لقاء “آنين” سياسيين، اختلافهما كامن في أسبابهما الماضية، وكامن في مقاصدهما اللاحقة، كما تجلت اليوميات التحالفية تباعاً.
“الآن” العوني، لم يكن كله داخلياً، بل تدخلت فيه عوامل خارجية، فجعلته أمراً ملموساً، أما “آن حزب الله”، فكان مثل نشأته، تسنده ترسانة خارجية، مادية، وعقدية، وترشده سياسات تدخلت بدورها لتبارك ولادته، فكانت “مقاومة حزب الله” وسيلة سيعمل ضمنها وعليها، لإدراجها في سياق المشروع الإقليمي الأكبر، الذي هو مشروع تعزيز الثورة الإسلامية، وتصديرها، فجاء تحالفه مع “العونيين” لينتهي باحتلال لبنان، وسط ميدان، المناورة فيه لحزب الله واسعة ، وكان قوس قزح “تفاهماته” متعدد الألوان، المذهبية والسياسية، ما أتاح له أن يكسب الحليف دون أن يقدم للحليف أية مكاسب، فخسّر شريكه، ولم يخسر، وكثيرًا ما ابتكر العونيون أعذارًا لحليفهم “المقاوم”، من خلال ربط سياساته المحلية، بضرورات مشروع المقاومة الكبير على امتداد جغرافيا الإقليم.
بالنتيجة وقع العونيون بالفراغ، فلا بيئتهم المسيحية تقبل بمثل هذا “التحالف الخاسر”، ولا “حزب الله” يقبل باشتداد عود العونيين ليصبحوا قوة مكافئة، ومن بعد ذلك جاء دور نبيه بري، الذي يتمدد في كل الثغرات، ويدخل من كل الثقوب، وليس ثمة ثغرات تساوي ثغرات تحالف حزب الله مع العونيين، فاستمرأ الصيغة وشغّل إعلامه وسواطيره بالعونيين، وهو مايشتغل عليه حزب الله بالسر، فيما يشغّل حليفه نبيه بري بمثل هذا الدور بالعلن، وهاهم العونيون في لبنان اليوم وقد باتوا “لا مع أم العريس، ولا مع أم العروس”، وكل الدبكات السابقة التي رقصوا عليها لاتساوي سوى انهيارهم:
ـ انهيارهم مسيحيًا، وانهيارهم لبنانيًا، وحتى انهيارهم على مستوى العلاقات الدولية، وما العقوبات الأمريكية على جبران باسيل سوى رأس جبل الجليد.
في المثل اللبناني (الذي يشترك فيه السوريون مع اللبنانيين) يقولون:
ـ شريك … خسار وخسّروا.
على هذه الصيغة اشتغل حزب الله دون أن يخسر وقد اكتفى من المثل بـ “خسّروا”.
وفاز .