مرصد مينا
“الحمائل والعشائر” في غزة تجيب باختزال بالغ الوضوح “نطالب حماس بالتوقف عن تخويننا وتكفيرنا”، وقبل هذا “م ت ف” هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، والكلام إياه الصادر عن تجمع الحمائل وتحالفها يعلن ولو ضمنياً أن هذا التجمع غير مستعد للعمل تحت جناح “حماس”.
هذا البيان الاستثنائي ووفق “ها آرتس” ومصادر أخرى، لتحالف العائلات نشر قبل فترة قصيرة من نشر نبأ في الشبكات الاجتماعية في غزة مصدره تقارير إسرائيلية تفيد بأن حماس قتلت مختار عائلة دغمش، الحاج صالح عاشور، للاشتباه بأنه أجرى اتصالات مع جهات إسرائيلية.
السؤال المرافق للبيان كان على الدوام ، ماهي الأبعاد الأخرى لهذا البيان؟
ـ الإجابة المختزلة:”إنه يتصل بـ اليوم التالي”.
فالغزاويون اليوم يواجهون سؤال “اليوم التالي”، أما اليوم التالي فيرتبط بـ “الخطة التي وضعتها إسرائيل”، وهي الخطة المقلقة للغزاويين تماماً كما تشكل مصدر إقلاق لمصر، فثمة وقائع تفيد بأن شخصيات مصرية اتصلت مع رؤساء عدد من العائلات الكبيرة في غزة لإقناعهم بـ “صد محاولات إسرائيل التي تستهدف تنسيق ترتيبات مستقبلية بشكل فردي مع العائلات في غزة” تضمنت موقفاً من بناء ميناء متحرك في غزة، وهو الميناء الذي أغضب القاهرة كونه يشكل التفافة على سيطرة مصر على معبر رفح ومن خلاله على سلوك حماس، وفي المستقبل على أي جهة فلسطينية تدير غزة.
وفق “ها آرتس” فإن مصر خضعت للشروط التي وضعتها إسرائيل والولايات المتحدة لعبور المساعدات الإنسانية إلى غزة ولم تفتح معبر رفح، ولهذا فلم يعد بوسعها “أن تعارض أي عملية تهدف إلى زيادة حجم المساعدات”. ولكن عندما بدأت إسرائيل في وضع خطط تتعلق بإدارة قطاع غزة بواسطة العائلات المحلية، يمكن لمصر أن “تقف على أعقاب أرجلها إزاء ما قد يسحب السيطرة على القطاع من يدها”.
المعلن من المشروع هو التالي:”إن نية تشغيل عائلات أو رجال أعمال محليين كبديل عن حماس، ربما تولد انطباعاً وكأن الأمر يتعلق بجسم تمثيلي، مدني محايد، من ناحية سياسية، وبالأساس معارض شديد لحماس”.
فهل تلك هي الحقيقة؟
الجواب عند “ها آرتس” جاء كالتالي “الحقيقة بعيدة قليلاً عن ذلك. فتحالف العشائر والعائلات تشكل في العام 2012 بمبادرة من محمود عباس كي ينشغل بحل النزاعات المحلية، ويستخدم كامتداد غير رسمي للسلطة الفلسطينية بعد أقالت قامت حماس موظفي السلطة في 2007. اعتبر عباس هذا التحالف، الذي انضم إليه 850 ممثلاً عن العشائر والعائلات الكبيرة في غزة كـ سلاح اجتماعي لـ م.ت. ف في غزة، الذين إضافة إلى علاجهم للنزاع المحلية، أسسوا لجان مصالحة لإنهاء النزاع الدموي الذي اندلع في حزيران 2007 عندما سيطرت حماس على قطاع غزة”.
السلطة في حينه قالت إن عباس أمر بتخصيص ميزانيات سخية لتحالف العشائر، في حين قال رؤساء التحالف بأنهم لم يحصلوا على أي دولار من السلطة منذ 2012، وأن كل نفقاتهم دفعوها من جيوبهم. ولكن عباس قرر في 2019 حل هذا التحالف وأوقف دعمه بسبب علاقته الوثيقة مع خصمه اللدود محمد دحلان، الذي يطرح نفسه الآن كمرشح لإدارة الجهاز المدني في غزة.
قرار عباس وفق “ها آرتس” لم يؤثر على التحالف، واستمر في العمل من خلال كونه ذراع مساعدة مدنية في سلطة حماس، بعد أن نجحت في تفكيك معظم المليشيات العائلية المسلحة واعتقلت مئات من رؤساء العشائر، وفي الوقت نفسه، منحهم صلاحيات مدنية، رسمية وغير رسمية، أوجدت لهم مصادر دخل جيدة. واستخدمت بعض هذه العائلات الأنفاق التجارية والعسكرية، وجبت رسوم عبور وتصدير واستيراد بضائع من القطاع واليه، وكل ذلك تحت رعاية حماس وإشرافها.
وفق سردية “ها آرتس” فإن هذا التعاون عانى من ارتفاعات وانخفاضات عنيفة عندما أسس رؤساء العائلات لأنفسهم مليشيات مسلحة، أصبحت جزءاً من “اللجان الشعبية”، بل وتحدوا سلطة حماس، بالأساس في كل ما يتعلق بالسيطرة على مصادر المداخل. ولكن لم يحدث هدوء حتى داخل العائلات نفسها. مثلاً، أسس ممتاز دغمش في 2006 تنظيماً باسم “جيش الإسلام”، الذي انضم بعد ذلك للقاعدة وحارب ضد حماس في القطاع. شخص رفيع آخر في عائلة دغمش هو زكريا دغمش، الذي عمل على رأس “اللجان الشعبية”، وتعاون مع حماس لفترة طويلة.
تتحدث إسرائيل عن نية تجنيد “رجال أعمال” لإدارة منظومة المساعدات المدنية، لكن هؤلاء هم نفس الأشخاص الذين يديرون أجهزة السلب الآن. تدرك إسرائيل وواشنطن الفوضى الكبيرة التي ترافق مشروع المساعدات.
اقتراح إغراق القطاع بالسلع لتحويل السرقة إلى أمر غير مجد أو لفض الأسعار، أمر يشبه الخيال. ما دامت المليشيات الشعبية والعصابات المسلحة أو الأقوياء هم الذين يسيطرون على الشارع ويسيطرون على المخازن ووسائل النقل، فكثرة البضائع تعني ربحاً كثيراً للمافيا المحلية، أي العائلات الكبيرة و”رجال الأعمال”، الذين أصبحوا فجأة الأمل الكبير الذي سيحرر إسرائيل من التعاون مع السلطة الفلسطينية.
في غزة، بالمناسبة، يقولون إن عصابات الجريمة لا يمكن أن تتشكل لولا أنها تخدم مصالح إسرائيل. “العصابات تسرق وإسرائيل تحميها”، كتب في أحد الحسابات في “اكس” ، المشكلة أنه كلما استمر هذا الوضع، لن تعثر إسرائيل على جهة حقيقية مسؤولة، لا توافق فقط، بل ولا يمكنها مواجهة القوات المسلحة؛ لأنه حتى لو وافقت السلطة على الدخول إلى غزة فستحتاج إلى قوة شرطة كبيرة مسلحة بشكل جيد ومدربة وماهرة للبدء في فرض النظام. في هذه الفترة، إسرائيل التي تخاف من إعادة ترسخ حماس وتعمل على تصفية قدراتها المدنية وليس فقط العسكرية، تخلق في غزة واقع فوضى لسلطة عصابات مسلحة، التي قد تصبح تهديداً أخطر من حماس.
غزة اليوم، بمواجهة “اليوم التالي”، ووفق أيامنا بما شهدته فقد كان اليوم التالي أشدّ قسوة مما سبقه من أيام.
يوم العراق التالي كان أكثر دموية، فساداً ونهباً، وكان هذا حال ليبيا وسوريا واليمن والسودان.
كلمة اليوم التالي بالنسبة للعرب باتت تعني “الترحم على اليوم السابق”.