مرصد مينا
لم يسبق أن وقعت جريمة في لبنان، ثم أعقبها الكشف عن الجريمة، فالجريمة في لبنان، لها ألف أم كما ألف أب لتحميها وتغطيها وتتستر عليها، ولو لم يكن الأمر كذلك لما تأخرت شهادة قائد الشرطة القضائية السابق العميد الركن المتقاعد عصام ابو زكي، ما يزيد عن ثلاثة عقود لرسم وقائع اغتيال كمال جنبلاط، على يد ابراهيم حويجة، وكان حويجة ضابطًا صغيرًا ثم تحوّل الى واحد من حيتان الاستخبارات السورية لاحقًا.
الأمر سينطبق على سلسلة من الاغتيالات، من الصعب ترتيبها وفق وقائعها الزمنية، من اغتيال سليم اللوزي، وصولاً الى اغتيال رفيق الحريري، مرورًا باغتيال جبران تويني، وبالنتيجة لن يكون انفجار المرفأ في لبنان (أو تفجيره) إلاّ جريمة لابد وأن تبقى مسجلة “ضد مجهول”، ولو لم يكن الأمر كذلك فما معنى أن يدور ملف تحقيق “الجريمة” على ثلاثة أجهزة أمنية في غضون يومين، كما حصل في ملف 20 طناً من نيترات الأمونيوم التي ضُبطت في بعلبك فجر السبت الفائت؟
لنستعين بالتفاصيل بما أوردته صحيفة الأخبار اللبنانية، وهي الصحيفة الموالية لحزب الله، دون نسيان، أنها كما كل المنابر الإعلامية الموالية للحزب، لابد وتوقد الشموع لاستبعاد ضلوعه في الكارثة.
بدأ تحقيق الشرطة القضائية في قوى الأمن الداخلي، ثم لم يلبث أن نُقل إلى فرع المعلومات في اليوم التالي مع الموقوفين الثلاثة، قبل أن يقرر مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي، نقله إلى مديرية المخابرات في الجيش، بشكل مفاجئ وغير مفهوم.
الشرطة القضائية رصدت الشحنة بناءً على معلومة مخبر، لتضبطها وتبدأ التحقيق بإشارة القضاء. من بعدها سُحِب الملف ليُحال إلى فرع المعلومات في اليوم التالي. بدأ ضباط الفرع تحقيقهم باستجواب الموقوفين الذين انضمّ إليهم مارون الصقر، المشتبه في تورطه ببيع النيترات لسعد الله الصلح (صاحب البضاعة) المتواري عن الأنظار مع مدير المشتريات لديه أحمد الزين، الذي عاد وسلّم نفسه لفرع المعلومات. الزين الذي فرّ بعد ضبط النيترات وتوقيف سائق الشاحنة مع ابن صاحب المستودع، أدلى بإفادته للمحققين، مؤكداً أنّ المؤسسة التي يعمل فيها اشترت النيترات من مارون الصقر. وكان الزين قال في إفادته إن الصقر اتصل بهم أكثر من مرة، طالباً إليهم نقل النيترات من المستودع. أما الصقر، فنفى ما ورد في إفادة الزين. عند هذه النقطة تدخّل القاضي عقيقي، طالباً من فرع المعلومات ختم التحقيق وإيداعه إياه ثم أحاله على مديرية المخابرات في الجيش مع الموقوفين.
هكذا دار ملف التحقيق مع الموقوفين دورته على ثلاثة أجهزة من دون أي مبرر. وهنا توقفت مصادر مطلعة على التحقيق عند تدخّل عقيقي، معتبرة أنه يعرّض سلامة التحقيق للخطر. التبرير الذي يسوّق في الأروقة العسكرية أنّ هناك خشية من احتمال استخدام فرع المعلومات هذا الملف للانتقام من القوات اللبنانية في ملف الأخوين مارون وإبراهيم الصقر، لحساب الرئيس سعد الحريري. فهل هذا صحيح فعلاً، أم أنه تبرير لطمس حقيقة يحتمل ظهورها تتعلق بوجود ارتباط بين هذه النيترات المضبوطة، وتلك التي انفجرت في مرفأ بيروت يوم 4 آب 2020، أو ربما العكس لجهة أن يُخلق رابط مع نيترات المرفأ؟
تجدر الإشارة إلى أن تركيز الآزوت في شحنة النيترات التي ضُبِطَت في البقاع يوم السبت الفائت تبلغ 34،7 في المئة، وهي النسبة نفسها التي كانت موجودة في نيترات مرفأ بيروت، من دون أن يشكّل ذلك دليلاً على أن مضبوطات البقاع مسروقة من المرفأ قبل 4 آب 2020، لأن النسبة نفسها موجودة في كميات هائلة من النيترات تُنتج يومياً في دول كثيرة حول العالم. لكن استيراد النيترات الذي يحمل هذه النسبة من الآزوت، مقيّد في لبنان بموافقات أمنية وحكومية مسبقة، وبالتالي من المفترض أن يكون من السهل تتبّع مصدره.
في الحكاية بعدين، أولهما تمييع التحقيق عبر نقله من طباخ الى طباخ وكلما زاد الطباخون احترقت الطبخة، وتلك حقيقة في السياسة كما هي حقيقة في المطابخ، والثانية أنه من السهل تتبع مصدر النيترات، سواء نيترات مارون الصقر، او النيترات السابقة التي فجرت المرفأ، اما عن هذا (السهل) ففي لبنان لابد ويبدو عصيًا، فـ :
ـ على الجريمة أن تغفو مطمئنة.
تلك حكاية لبنانية، حكيت بالأمس، واليوم، وستحكى في كل يوم وغد، ولو لم يكن الأمر كذلك لما ضاعت دماء جبران.. رفيق، ومن قبلهما كمال جنبلاط، وسلسلة من الشخصيات اللبنانية التي كان ما بعدها غير ماقبلها.