مرصد مينا
خمسة عقود، كادت أن تمتد إلى قرن، والسوريون يكنسون ويرمون الأوساخ تحت السجادة في عملية إنكار قاتلة ، مراعاة مبعثها الخوف من تغوّل النظام والفتك بحياتهم، مؤجلين كل ما يستدعي الحوار الوطني الشامل، وهو الحوار الذي تقتضيه استحقاقات أبعد من اليومي، كما ليست أقل شأناً من التاريخي بما يشمل الحرب والسلم، والسلطة ما بين احتكارها وتداولها، وكذلك الثروة الوطنية ما بين الاحتكار والتوزيع العادل، وفي غياب الرأي الحرّ، وغياب العدالة والمساواة، تحوّلت “مكنسة السجادة” إلى حزام ناسف قادت إلى العنف والعنف المضاد بما جعل البلاد خرابة، وبما يضعها اليوم على حافة لابد وأحد احتمالاتها “التقسيم” بما يأخذ الدولة الوطنية “المأمولة” إلى “دول الفقاعة”، في لعبة تبحث عن النجاة من اللحظة للوقوع في حفرة التاريخ، ولتتحول إلى لعنة جديدة تضاف إلى لعنات الأمس ، بل وتضاعفها، وما يحدث في جنوب سوريا اليوم، قد يقود إلى هذا الاحتمال القاتل، وهو مالم يكن يوماً خياراً لأبنائها الذين تقتلهم المساحات الضيقة وتنقذهم الدولة الوطنية باتساع فضاءاتها.
ما يحدث اليوم، أن السويداء أغلقت بواباتها بمواجهة السلطة المركزية، فأزالت رموزها، واستخدمت المطارق في تحطيم أوثانها، غير أن السؤال:
ـ إلى أين سيمضي هذا الجنوب، بشقيه، سهلاً وجبلاً، وقد بات فراغ السلطة فيه هو حقيقة واقعية، جزئية اليوم وكاملة في الغد؟
منظومة الطغمة اشتغلت عبر سنوات حكمها على “تقسيم البلاد في ظل وحدتها”، أما التقسيم فقد اشتغل على سوريتين:
ـ سوريا الناهبة، وسويا المنهوبة، الأولى للطغمة والثانية للناس.
ـ سوريا السجين وسوريا السجّان، وما من بلاد عانت ماعانته سوريا من جلاديها والأعداد الهائلة لمن سجنوا وغيّبوا تتكشف يوماً بعد يوم، لتتضاعف مع كل يوم.
ـ سوريا تحالف الفاسدين بتطييفهم، بمواجهة سوريا التنمية والمعمل والقمح القاسي.
وكلا السوريتين، احتكمتا لنظام الأب الراحل والابن الوارث، حتى كان الانفجار في ٢٠١١، ومن بعده استرسال النظام بالإنكار والعنف بذروة ما استطاع، وحين تعبت قبضاته من خنق أعناق الناس استعان بالأجنبي فقطّع البلد إلى مستعمرات يتقاذفها الروسي والإيراني، وأذرع الروسي والإيراني، حتى بات بيع البلد حقيقة أسقطت ممتلكات النظام بيد منقذيه، ومع كل ما حدث، والمتوقع حدوثه، لم يتزحزح النظام قيد أنملة عن سلوكه وعنجهيته وعن الإنكار القاتل الذي قاد الناس إلى:
ـ المطرقة بمواجهة التمثال.
ولقد رأينا تلك المطرقة وهي تنهال على التمثال في إعلان صريح عن إخراج سلطة المركز عن الأطراف، وبما يعني اشتغال الأطراف عن الاستقلال عن المركز، وبما يعني أيضاً فرض واقع حال اسمه الصريح:
ـ الإدارة الذاتية.
إنها مقدمة لعاصفة لاحقة، والعاصفة إياها قد تنذر بطوفان بالغ الخطورة إن لم يتداركها السوريون، كل السوريين، وبما يعني الاشتغال على وحدة لبلاد، والحيلولة دون انهيار “دولة الطغمة” لحساب “دويلات الفقاعة” ، وهي الدويلات التي شاء التاريخ أن يعلّمنا أنها طالما استبدلت طاغية بطغيان لتعيد انتاج الطغيان بالصورة الممسوخة عن الطغيان الأصل، ومخاوف كهذه لابد وتستدعي اليوم، التسارع إلى مؤتمر وطني جامع، يوحّد البلاد، ويحول دون الفرار من تحت الدلف إلى تحت المزراب، مع الاستثمار الجدّي بالضعف الذي نال بالطغمة وآلة الطغمة، وبما يسمح بالتأسيس لسوريا جديدة، لا تشبه سوريا الأمس، بل تشق طريقها نحو مستقبل الدولة الديمقراطية، دولة لكل السوريين، لا تحتكرها زمرة أو عصابة أو طائفة، فتعيد لسوريا بيانها الأول:
ـ سوريا لكل السوريين.
سوريا اليوم على الحافة، والانهيار ممكن في كل آن.
حال يستدعي أول ما يستدعي الاغتسال من لغة الإنكار، ومن بعده “كل الحقيقة للناس” الذين لابد ويختارون مصيرهم الطوعي دون إملاءات الأمم، ولعبة الأمم، أو الانجراف إلى الثأر القاتل بإطلاق الرصاصة على القدم، او جزّ الأنف نكاية بالنظام.