مرصد مينا – هيئة التحرير
مع تصاعد الأزمات اللبنانية على مختلف نواحي الحياة، يكثر الحديث عن ظاهرة الفساد الحاصلة في مؤسسة الجمارك اللبنانية، لاسيما بعد صدور قرار بتوقيف مديرها العام “بدري ضاهر”، بجرم المال العام قبل أيام.
في السياق ذاته، تؤكد مصادر خاصة بمرصد مينا، أن مديرية الجمارك تعتبر أحد أعصاب الفساد الرئيسية في لبنان، لا سيما من ناحية التهريب وإدخال الشحنات غير الصالحة للاستعمال أو الاستهلاك، إلى جانب التلاعب في الدخل الجمركي، لافتةً إلى مقدار الرشاوى في إحدى قضايا التهرب الجمركي وصلت إلى 200 ألف دولار.
مبالغ ضائعة وجيوب المواطنين أول المتضريرين
عملية محاربة الفساد والإصلاح في لبنان، كما تراها المصادر، يجب أن تبدأ من مؤسسات الجمارك وقيادتها، نظراً لارتفاع حجم الأموال الضائعة على خلفية الفساد الحاصل، خاصةً فيما يتعلق بالتهرب الجمركي وإدخال المواد المهربة عبر المنافذ البرية والبحرية، والتي غالباً ما تكون فاسدة أو معدة للتلف.
وتقدر المصادر الخاصة حجم الفساد السنوي في لبنان نتيجة الفساد في المؤسسة الجمركية، بما يتجاوز مليار و300 مليون دولار سنوياً، نحو 800 مليون دولار منها تتم في مرفأ بيروت، لافتةً إلى أن تلك المبالغ لا تشمل الخسائر المالية الناجمة عن تهريب الأموال والقطع الأجنبي إلى خارج البلاد، والتي قالت إنه يصعب تقديرها أو حسابها.
وسبق لوزير المالية اللبناني، “حسن خليل” أن أقر بارتفاع حجم الفساد في مؤسسة الجمارك اللبنانية إلى حدود كبيرة جداً، مشيراً إلى أن حجم الفساد وصل إلى 700 مليون دولار سنوياً.
فساد مركب متعدد الأطراف
تعليقاً على إحصائيات الفساد السابقة، يوضح الخبير الجمركي، “بيير أبي عاصي”، أن ما يحدث في جمارك لبنان هو عبارة عن فساد مركب متعدد الأطراف والنتائج، مضيفاً: “المسألة لا ترتبط فقط في فقدان الدولة لأموال هائلة كافية لحل الكثير من الأزمات، وإنما أيضاً في الأضرار التي تلحق بالتجار والمواطنين اللبنانيين نتيجة عمليات التهريب والتهريب المعاكس، التي يتم عدد كبير منها عبر المنافذ والمعابر الرسمية وبتغطية من الفاسدين”.
كما يوضح “أبي عاصي” أن تهريب الكثير من السلع الأساسية والأدوية إلى خارج البلاد شكل عامل رئيسي في فقدانها وغلاء أسعارها في السوق المحلية، وتحديداً الأدوية، لافتاً إلى أن مسألة الفساد في الجمارك لا ترتبط فقط بإهدار المال العام وإنما ايضاً التلاعب بحياة المواطن وأمنه الاقتصادي.
يشار إلى أن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي اللبناني، قد أعلنت مساء أمس السبت، عن إحباط عناصرها عملية تهريب أدوية مدعومة إلى مصر، هي الحالة الثانية من نوعها خلال شهر واحد فقط، في حين يعاني قطاع الأدوية من نقص حاد جداً في الكثير من العلاجات، لا سيما أدوية السكري والسرطان.
تصاعد معدلات الفساد وشموليته داخل المؤسسة، تدفع “أبي عاصي” إلى اعتبار أن مديرية الجمارك وكل من له صلة بها، كفروا فعلياً بكل شيء في لبنان، لافتاً إلى أن من يقدم على عمليات الفساد تلك في ظل الظروف الراهنة وما يعانيه اللبنانيون فإنه لا يمكن أن يكون مؤمن بأي شيء، لا دين ولا إنسانية ولا وطن ولا أخلاق، وأنه لا يؤمن إلا بالمصلحة الشخصية والمال، على حد قوله.
إعفاءات مشبوهة
الحديث عن فساد الجمارك، يقود بحسب المخلص الجمركي، “رعد”، الذي اختار اسماً مستعاراً لأسباب أمنية ومهنية، إلى تناول نظام الإعفاءات، الذي قال إنه تحول إلى وسيلة للتهرب من دفع الضرائب الجمركية وشكل من أبرز أشكال الفساد المعتمدة في مديرية الجمارك، لافتاً إلى أن أحد المتنفذين في الدولة اللبنانية قام باستيراد سيارة فاخرة وسجلها على أنها تابع لطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة، ما مكنه من التهرب من دفع ضريبتها المقدرة بعشرات آلاف الدولارات، التي ضاعت بدورها على الخزينة.
كما يؤكد “رعد” لمرصد مينا، أن شحنات كبيرة من المستوردات ومن مختلف السلع يتم التلاعب بأوراقها لتقيد على أنها تابعة لأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، حتى يتم إعفاءها من الضرائب والرسوم، مشدداً على أن تلك المستوردات تعود لشركات المتنفذين والشخصيات السياسية.
ويعيش لبنان على وقع سلسلة من الأزمات المعيشية والاقتصادية، في مقدمتها ارتفاع معدلات الفقر إلى 55 في المئة، بينها 25 في المئة نسبة من يعيشون في فقر مدقع، بالإضافة إلى أزمات فقدان العديد من المواد الأساسية كالخبز والمحروقات والأدوية.
إلى جانب ذلك، يشير “رعد” إلى أن الجمرك وتحديداً المرفاً بات يعتبر مكاناً لصناعة الثروات بأسرق الطرق وأقلها تكلفة، على حساب جيوب المواطنيين اللبنانيين وحياتهم وقوتهم، مشدداً على أن شبكة الفساد داخل مؤسسة الجمارك لا يمكن فكفكتها إلا في حال فكفكة النظام السياسي بأكمله، ورفع أيدي المتنفذين والسياسيين عن الدائرة الجمركية، وأن حجم الفساد الحاصل في الجمارك، قادر على سداد مديونية لبنان.
يذكر أن حجم الدَّين العام الخارجي للبنان بلغ 91 مليار دولار، نهاية 2019، حسب بيانات تقرير جمعية المصارف اللبنانية.
فاسدون بخطوط حمراء وضعها المستفيدون
اعتقال مدير عام الجمارك اللبنانية، يرى فيه “أبي عاصي” أنها مجرد خطوة لا طائل منها، على اعتبار أن منظومة الفساد داخل مؤسسة الجمارك اللبنانية متشابكة ومرتبط بنظام سياسي وقوى سياسية، أكثر من كونها مرتبطة بفساد مدير أو مسؤول، مشدداً على أن بعض الجهات السياسية في لبنان تعتبر من قائمة المستفدين من حالة الفساد الحاصلة، ليس فقط على المستوى المالي الشخصي وإنما على المستوى الحزبي أيضاً.
من جهتها، أطلقت المصادر الخاصة بمرصد مينا، على حالة الفساد الحاصل في الجمارك اللبنانية عبارة “تسييس الفساد”، موضحة: “لنقولها بشكل مباشر ودون مواربة، الفاسدون في الجمارك اللبنانية خطوط حمراء لا يمكن التعرض لأحد منهم بسبب الدعم الكبير الذي يتلقونه من حزب الله، فلا يوجد أي جهة رقابية أو حكومية قادرة على التفتيش أو التحقيق مع أيٍ منهم دون موفقة مسبقة من حزب الله، الذي يعتبر الجهة الفعلية التي تتولى إدارة ملف الجمارك”.
إلى جانب ذلك، تؤكد المصادر أن حزب الله وبحسب الوضع القائم حالياً، يعتبر أكبر المستفيدين من حالة الفساد، بدرجة أولى كونها تمكنه من إدخال وإخراج وتخزين المواد المتفجرة والخطيرة والأسلحة؛ بحرية تامة ودون أي عقبات، بالإضافة إلى القيام بعمليات تهريب الأموال والمخدرات والممنوعات خاصة عبر المرفأ، مشدداً على أن كافة الأحزاب السياسية لديها وكلائها في المرفأ تحديداً، وأن جميعهم يعملون في ظل وكلاء حزب الله، وهو ما دفع الحزب إلى التمسك والقتال لأجل الحفاظ على حقيبة المالية في الحكومة الجديدة، على حد قول المصادر.
يشار إلى أن الثنائي الشيعي أمل – حزب الله، قد أحبطا تشكيل حكومة رئيس الوزراء المكلف سابقاً، “مصطفى أديب”، بسبب إصرارهما على الاحتفاظ بحقيبة المالية، مؤكدان أنهما لن ينتازلا عنها حتى لو توقف لبنان لمئة عام متواصلة.
كما أشارت المصادر إلى أنه ما كان لحزب الله أن يدخل مواده المتفجرة شديدة الخطورة إلى المرفأ، وأن يخزنها لسنوات طويلة في واحدة من أكثر مناطق لبنان كثافة سكانية، لولا حالة الفساد الحاصلة، مجدداً التأكيد على أن محاربة الفساد في الجمرك قادرة على تأمين أموال كافية لسد الكثير من الأزمات في لبنان.
وكان مدير المشروع الإقليمي لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة لبرنامج الأمم المتحدة الانمائي في البلدان العربية، “أركان السبلاني”، قد أكد أن حجم الفساد في مديرية الجمارك اللبنانية قد وصل إلى مليار دولار بحسب إحصائيات العام 2019، لافتاً إلى أن إجمالي حجم الفساد في لبنان وصل إلى 5 مليارات دولار سنوياً أي ما يعادل 9 في المئة من الناتج الإجمالي السنوي.