مشهد الهاربين المذعورين والطائرة المتروكة لمصيرها في كابول، وكأنما صورة مأخوذة من السماء إلى الجحيم الأرضي، وبعده لا أحد يعرف هذا الجحيم كيف سيفتح بواباته.
غير أن ثمة ثوابت قد تبدأ كلها بـ “سوف”، فـ :
ـ سوف تفتح نكسة الانسحاب الأميركي الجروح والجدل الأميركي من جديد. وسوف تفتح باب الخلاف مع أوروبا من جديد. وسوف تطرح أمام إدارة بايدن السؤال الأصعب: هل في الإمكان الاستمرار في خطة الانسحاب المذلّ، أم سوف يعود عن قراره بحثاً عن شروط أفضل للمرحلة التالية؟
والـ “سوف ” الأهم لابد وستكون مع سؤال:
ـ ما الذي سوف تفعله إيران؟
مبدئيًا سينطلق الدور الإيراني من معطيات الشرق الأوسط، فعلى مستوى المنطقة، يأتي الوضع الناشئ في أفغانستان ليضفي قدراً كبيراً من عدم اليقين من سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ومن المرجح أن تستغل إيران ذلك من خلال تشجيعها العديد من وكلائها المحليين على زيادة نشاطهم في الأسابيع والأشهر المقبلة. وقد تحاول حتى تجنيد “طالبان” في “محور المقاومة”، والذي من الناحية العملية يمكن أن يخوّل الحركة الحصول على شحنات الوقود، والأموال، والأسلحة المتطورة الإيرانية الصنع. وسبق أن قدمت طهران بعض الأسلحة – عندما زار الأمين العام لـ “المجلس الأعلى للأمن القومي” الإيراني علي شمخاني كابول في كانون الأول/ديسمبر 2018، وأفادت بعض التقارير أنه أخبر الحكومة الأفغانية أن إيران كانت تزوّد “طالبان” بالأسلحة الخفيفة.
واليوم:
ـ ما هو الدور المقرر لميليشيا إيران الأفغانية؟
قبل التطورات الدراماتيكية الأخيرة، كان من المتوقع أن تقوم ميليشيا “لواء فاطميون”، العاملة بالوكالة عن إيران – والتي تضم آلاف المقاتلين الأفغان المتمرسين الذين ساعدوا في دعم نظام الأسد السوري منذ عام 2012 – دوراً فاعلاً في مواجهة استيلاء “طالبان” المحتمل على الحكم، على الأقل في المناطق الشيعية. ولكن في 12 آب/أغسطس، نفت الميليشيا شائعات عن نشر أيٍّ من قواتها في أفغانستان أو سيتم نشرها مستقبلاً؛ كما أشاد البيان بالانسحاب الأمريكي وسخر من الديمقراطيين الليبراليين الأفغان.
ومع ذلك، لا يجدر تصديق هذا الإنكار. فقد يكون لأعضاء “فاطميون” قيمة هائلة في جمع المعلومات الاستخباراتية لـ «فيلق القدس» الإيراني إذا ما قررت طهران إرسالهم إلى أفغانستان، لذلك يبدو من المعقول للغاية أن يعمل بعضهم هناك وسط الفوضى الحالية. ومع ذلك، فمن الجدير بالذكر أن مثل هذه الأنشطة ستظل تشكل ضبطاً كبيراً للنفس مقارنةً بالمعارضة الرئيسية التي نظمتها إيران في العراق قبل عدة سنوات لمواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية» – وهي جماعة جهادية سنية تشترك في العديد من أوجه التشابه الأيديولوجي مع “طالبان”. وقد يكون عدم نشر “فاطميون” على نطاق واسع أيضاً وسيلة إيران للحفاظ على اللواء باعتباره قوة عسكرية وسياسية تستطيع استخدامها لاحقاً في الخطط المستقبلية لأفغانستان.
وفي الوقت نفسه، هناك أسباب منطقية لتوقع تحالف بين إيران و”طالبان”، حتى لو كان محدوداً على المستوى التكتيكي. ففي النهاية، إن الخلافات الشيعية – السنية لم تمنع إيران من إقامة علاقات وثيقة مع جماعات مماثلة (على سبيل المثال، “حماس” و “الجهاد الإسلامي الفلسطيني” ، طالما أنها تشاطر أعداء مشتركين. ويمكن للشراكة مع حركة “طالبان” أن تلبّي العديد من المصالح الإيرانية، أي: إبقاء الجماعات الأكثر تطرفاً بعيدة [عن إيران] على سبيل المثال، تنظيم “داعش” وإقامة علاقات اقتصادية وسياسية أوثق مع أولئك الذين يحكمون أفغانستان؛ وربما تمكين إيران من الوصول إلى مناطق ذات أغلبية شيعية بعيدة مثل «جيلجيت بالتستان»، وهي جزء استراتيجي من كشمير يرتبط بأفغانستان والصين.
وبالنسبة لتنظيم «القاعدة»، يبقى أن نرى ما إذا كان النظام سيسمح لكبار أعضاء الحركة المقيمين حالياً في إيران بالانتقال إلى أفغانستان. وفي ضوء هذا الاحتمال والمخاطر الأمنية الأخرى، من الضروري أن تتأكد الولايات المتحدة من أن قدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع الكافية تركز على أفغانستان وحدودها مع إيران وباكستان على مدار الساعة – وهو مطلب من شأنه أن يعطي أهمية أكبر للقواعد الأمريكية في الشرق الأوسط.
ذلك ما “سوف” يحصل.
ثمة ألف سوف وسوف بعد.