يوم قال بشار الأسد “الوطن ليس لمن يحمل جواز سفر سوري، أو صفة المواطنية، بل لمن يدافع عنه”، أُخِذ كلامه بالكثير من الاستخفاف، تمامًا كما كل ما يصدر عنه من كلام، غير أن كلامًا كهذا كان لابد ويؤخذ بالجدية الكاملة، أقلّه لما يحمل وراءه من لعبة هي الأشد خطورة في الحرب السورية بعقدها الكامل، واللعبة هي لعبة التغييرات الديمغرافية.
نقول التغييرات الديمغرافية، وهي لعبة لابد وتمثل امتدادًا لمرحلة والده الراحل، فليس صدفة ذاك الحزام الذي طوّق العاصمة كما مدن سورية أخرى أبرزها “حمص” و “حماه”، ففي دمشق تم زرع مستوطنات طائفية محضة، منح لمستوطنيها كافة التسهيلات لتتشكل من لون طائفي واحد هو “علونة” هذه المناطق وبالوسع الإطلالة على “حيّ” من مثل “٨٦” القريب من القصر الجمهوري والممتلك فعليًا لعسكر النظام، كما أحياء أخرى من بينها “نهر عيشه” وضاحية برزة والكثير الكثير من مناطق مخالفات لم يلتفت النظام إلى ما فعلته من تشويه قاتل للعاصمة، بالتزامن مع اشتغال نظام الأب على تدمير مدينة حماه، وإعادة إعمار المدمر منها لمستوطنين لهم صفة طائفية محددة لـ “تعلون” هذه المدينة، وكذا حال مدينة “حمص”، وما أن أتت الحرب بدءًا من ٢٠١١ حتى اشتغل الرئيس الابن على التدمير الممنهج الذي طال المناطق “السنيّة” حصرًا ومن يراجع المناطق المهدمة من الحرب، لابد وسيلحظ أن ما دمرته الحرب “خصّ” المدن والحواضر “السنيّة” حصرًا، ليعقب التدمير إخراج السكّان من مواطنهم وترحيلهم إلى منطقة ادلب وبعض مناطق الشمال السوري، دون النظر أو التفريق ما بين “مسلحين” و “مدنيين” وهذا ليس صدفة أيضًا إذا علمنا من حلّ محل السكان الأصليين، فالحالون مكان الراحلين، لابد وكانوا من “الشيعة” حصرًا، وبعضهم من الشيعة الأفغان كما من الشيعة الإيرانيين والذين منحوا جنسية سورية، بعد أن استأثروا بمنطقة “السيدة زينب” وكان هذا بتخطيط من قاسم سليماني، بأدوات هي الاستخبارات السورية، بما لهذه المنطقة من أهمية في تأمين النظام في العاصمة، ومالها من أهمية في تحقيق تواصل دمشق مع سهل البقاع اللبناني، وهذه ضرورة لنظام الأسد وإيران وميليشيات “حزب الله”، الذي مد سيطرته إلى منطقة القلمون الغربي على امتداد سلسلة جبال لبنان الشرقية وصولاً إلى سهل العاصي، وجرى في سياق هذا الخط الطويل كثير من جرائم تغيير ديمغرافي، شملت عمليات القتل والتهجير والتدمير، وتمثل حالات مخيم اليرموك وداريا والقصير نماذج معروفة وإذا كان لابد من الاستطراد في الأمثلة فثمة أمثلة قد يكون البارز منها ، مسار التغيير الديمغرافي، الذي جرى أحد فصوله في وادي بردى غرب دمشق، وفصل آخر في كفريا والفوعة في إدلب، حيث عقد ممثلون عن “حركة أحرار الشام” الإسلامية و”هيئة تحرير الشام”، وعن “الحرس الثوري” الإيراني وميليشيا “حزب الله”، اتفاق “المدن الأربع” في مارس (آذار) 2017 برعاية إقليمية وأموال عربية وموافقة أممية، لتبادل السكان، ينقل فيه سوريون من “السنة” إلى منطقة سيطرة التشكيلات المسلحة في الشمال، وينقل سوريون من “الشيعة” إلى مناطق سيطرة النظام في الجنوب.
وهكذا اشتغل النظام على تغييرات ديمغرافية قد تشكل استعصاء لأي حلّ سوري مقبل وبالوسع الاستطراد كثيرًا مع بعض الأمثلة منها
جريمة التغيير الديمغرافي في منطقة القريتين، وكان قد ترافق مع اجتياح “داعش” للبلدة عام 2015، حيث فر كثيرون من سكانها، وقام “داعش” باحتجاز 270 من سكانها المسيحيين في قبو تحت الأرض لمدة قاربت الشهر، ودمر المعالم المسيحية وبينها دير مار إليان للسريان الكاثوليك، الذي يعود إلى القرن السادس ميلادي، وأحرق ودمر كنائس البلدة، وعندما استعاد نظام الأسد البلدة عام 2017 حافظ على نتائج ما ألحقه “داعش” بسكان البلدة ومعالمها، التي يمكن اختصارها اليوم بالقول: إن القريتين التي كان سكانها عام 2011 نحو ثلاثين ألفاً بينهم ألف من المسيحيين، لم يبق منهم فيها اليوم سوى نحو تسعة آلاف بينهم أقل من عشرين مسيحياً، وهذا كلام وثقه الصحفي السوري فايز سارة، ليضيف أن أغلبن من تبقّى هم من كبار السن، وهذا مؤشر نهاية وجود مسيحي في البلدة عمره أكثر من ألف وخمسمائة عام. وإن كنا لا نعرف من سيحل مكان هؤلاء في البلدة، فإن الوقائع تبين أن إيرانيين وأفغاناً، وعائلات وأقارباً منتمين إلى ميليشيات عراقية ولبنانية، يتواصل توطينهم في دمشق ومحيطها الجنوبي والغربي استكمالاً لجريمة التغيير الديمغرافي الجارية هناك.
قراءة على هذا النحو تقول بثنائية الاشتغال على التغييرات الديمغرفية ففي المسألة طرفان قوى “الإرهاب” بالشراكة مع النظام، فالأول يقدّم أسباب تدمير المدن والحواضر، والثاني يرث منتجات الأول ليشتغل على تغييرات ديمغرافية يُحلّ معها “الشيعة” مكان السكّان الأصليين، وسيكون من البلاهة قطع هذا عن سياقه التاريخي وقد اشتغل عليه الرئيس الأب عبر تلك الاستملاكات الهائلة التي مارسها على المدن الرئيسية الواقعة ضمن خارطة “الدولة العلوية” المأمولة، ليأتي الابن ويستكمل تدمير المدن ويمارس سياسة الإحلال السكّاني، وهذا أقص ما يمكن لعقل إجرامي ارتكابه.
سمعنا بشار الأسد يحكي عن المواطنية وحقوقها، فأخذنا كلامه بكل السخرية التي تطال شخصه حيثما حلّ وكيفما حكى.
ـ لا.. في هذه المسألة لامكان للسخرية أبدًا.
لامكان للسخرية أقلة إن علمنا بأن التراجيديات الكبرى قد تعتريها بعض السخرية ولكنها:
ـ تراجيديات كبرى.