من السذاجة الاعتقاد بأن الوضع في السودان اليوم، هو الصراع ما بين الجيش والحكومة المدنية، فالأمر لايقتصر على مثل هذه السردية وإن كانت صحيحة جزئيًا.. الأمر قد يكون أبعد ومن الأبعد، أن الحكومة المدنية كانت قد لاقت فشلاً لايستهان به لتشكيل مؤسسات انتقالية أو حتى الحكم بفعالية منذ الإطاحة بالرئيس عمر البشير في عام 2019، وهذا يعود لشح الخبرة، وضبابية المشروع.
هذا عامل أول، وفي العوامل اللاحقة، فقد فاقم “اتفاق جوبا للسلام” الموقع عام 2020 بين الحكومة الانتقالية وتحالف المتمردين التوترات القبلية/المدنية. وينظر الكثيرون إلى الحكومة على أنها كيان يركز على المدن ولا يُدرج العناصر القبلية، وهذا مقتل لأية حكومة في بلد مثل السودان، للقبيلة فيها عامل حاسم في كيف سيكون حال البلد وشكله.
العامل الثاني أن الحكومة المدنية كانت قد منحت الأحزاب السياسية الأولوية للمصالح الحزبية من خلال توظيف حلفائها في الحكومة.. هذا يعني “المحسوبية” وقد ساهمت هذه المحسوبية في تكوين تصوّر بأن الأحزاب مهتمة فقط بالسلطة وليس بتشكيل مؤسسات لدعم عملية الانتقال إلى الديمقراطية.
وحين يكون الكلام عن “الشعب”، على عرض هذه الكلمة واتساعها ، فالشعب ناشط للغاية في سياسات الشوارع حيث اندلعت العديد من الاحتجاجات منذ استيلاء الجيش على الحكم. ولكن في حين يعارض الكثيرون الانقلاب، إلا أنهم يفتقرون إلى القدرة على تحريك الحشود التي أطاحت بالبشير. فالمحتجون الحاليون هم في أغلبهم ناشطون شباب غير سياسيين. وكانوا قد تركوا أثراً أكبر لو أنهم أنشأوا مظلة سياسية واسعة، لأن ذلك من شأنه أن يحسّن قدرتهم على إرساء توازن قوة أمام الجيش. ومن جهتها، تدرك الحكومة أن الشعب يستطيع لعب دور في تحديد معالم الأحداث الوطنية والانتقال القائم نحو الديمقراطية.
مايحدث في السودان اليوم، ربما يأتي من ضمن أولويات الولايات المتحدة، وكان واضحًا ردّ الولايات المتحدة إزاء استلام الجيش زمام السلطة وفي كل المقاييس كان ردًا ناجحاً، حيث أتى منسقاً مع دول إقليمية على غرار السعودية والإمارات وإسرائيل ومصر. وساهم هذا النهج في تعزيز الضغوط الأمريكية الممارسة على قادة الجيش في السودان. وفي الوقت نفسه، يجب أن لا يغيب عن بال واشنطن أن للجيش دور يضطلع به في العملية الانتقالية – فالبلاد تحتاج إلى عناصر النظام السابق للوقوف إلى جانب الشعب من أجل الحفاظ على هيكلية الحكومة وتجنّب الحرب الأهلية. وبإمكان الولايات المتحدة أن تلعب دوراً إيجابياً في هذا الصدد من خلال المساعدة في صياغة المبادئ والإجراءات الانتقالية.
سياسات الشارع في السودان أسفرت عن تنامي المطالب بإنهاء العلاقة بين رئيس الوزراء عبدالله حمدوك والجيش. لكن من غير الواضح كيفية ترجمة هذه الرغبة في إطار سياسي واضح. فضلاً عن ذلك، حاولت الحكومة العسكرية – مثلها مثل حكومة البشير – الاستفادة من قوة التحركات في الشارع السوداني، حيث تلاعبت بها من خلال دسّ عناصرها في الجماعات المحتجة وتلك حقيقة يلمسها المراقبون جيدًا.
اليوم ثمة منطقتين في الجزء العربي من افريقيا، السودان وتونس، فالسودان يختبر مرحلة انتقالية نحو الديمقراطية في حين تمّ انتخاب الرئيس التونسي بشكل ديمقراطي. وتمنح هذه الشرعية. وفي المقابل، كانت العديد من السلطات العسكرية في السودان ثابتة في نظام البشير. وبالتالي، يميل العالم الديمقراطي والمجموعة الدولية وخصوصًا الولايات المتحدة للحفاظ على علاقات طبيعية مع تونس حتى في الوقت الذي يمارسون فيه ضغوط على السودان.
قريبًا ستكون “القمة الديمقراطية” التي يعقدها الرئيس بايدن، وستكون فرصة ذهبية للتشجيع على الإصلاح – ولا سيما إذا اقترنت هذه الجزرة الدبلوماسية بعصا في شكل عقوبات على حكومات تثير المشاكل. وتريد الإدارة الأمريكية التراجع عن الانخراط في الشرق الأوسط، لكن عليها أن لا تنسى أن قادة المنطقة يشعرون بذلك، وبالتالي فإن قرارتهم تتأثر بهذه الخطوة. ويُعتبر الاتقلاب في السودان مجرد مثال واحد دفعت فيه التوقعات بفك أمريكا ارتباطها بالمنطقة إلى قيام الحكومات باتخاذ خطوات تهدد المصالح الأمريكية.
تونس / السودان، مساران مختلفان بالكثير، وربما يعود اختلاف المسارين إلى اختلاف في بنية كل منهما عن الثانية، غير أن مايجمعها، هو أنهما دخلا الربيع العربي، دون دماء ولا اقتتال أهلي، فيما توقف الصراع على السلطة، يعني الصراع المقدور عليه، لاكما حال المسار السوري أو اليمني.
أيام وتتضح الصورة، ويبان الثلج.
كل المهم من بين المهم، أن تبقى التطورات في كلا البلدين مقتصرة على الصراع السلمي.
لا أحد يتوقع غير ذلك.
لو كان ثمة توقعات أخرى لكشفت عن نفسها، فلو شاءت أن تهطل دماء لغيّمت بالدماء.
شكرًا لله، أن البلدين على بوابة النجاة من :
ـ السلاح زينة الرجال.
أبشع زينة وأكثرها كارثية.