ما الذي أبقاه الناتو لأوروبا؟

هل ستؤدي الحرب الروسية الاوكرانية إلى تدمير كل من روسيا واوكرانيا؟ الجواب البديهي :”نعم”، ستقود إلى دمار البلدين وإن بنسب متفاوتة، غير أن الدمار كما الرياح قد تتجاوز حدود البلدين لتطال القارة الأوربية بمعظمها، وكذلك بنسب متفاوتة، وهنا سيظهر السؤال:

ـ من سيعفى من الدمار الذي ستلحقه هذه الحرب؟

“في الرابع من أبريل/ نيسان، أحيت الولايات المتحدة الذكرى الـ53 لتأسيس حلف شمال الأطلسي (التحالف الأوروبي الأميركي) المعروف بكونه أقوى كتلة عسكرية سياسية عرفها التاريخ”.

ما بين ظفرين مقدمة لتقرير ربما يحمل الكثير، والتقرير نشرته صحيفة “فزغلياد” Vzglyad الروسية، وعبره يقول الخبير الروسي جيفورج ميرزايان إن هذا التحالف يمثّل مصدر فخر للولايات المتحدة، في حين يعتبره الأوروبيون وصمة عار ومصدر تهديد، وقد اختار الكاتب كعنوان لتقريره السؤال التالي: “كيف يدمر الناتو أوروبا؟”

عند تأسيس حلف الناتو في عام 1949 وفي ظل الظروف والتوترات الجيوسياسية القائمة آنذاك التي أدت إلى انهيار أوروبا الغربية عقب الحرب العالمية الثانية، بدا الانضمام إليه، وفقا للكاتب، خطوة منطقية تماما.

وقد وافقت فرنسا وإنجلترا و8 دول أوروبية غربية أخرى على دعوة الأميركيين لحماية أراضيهم غير معترضين على كم القيود السياسية المفروضة عليهم مقابل الحصول على الحماية العسكرية، ولكن رغم غياب الحاجة إلى الحماية العسكرية في الوقت الراهن، لا تزال تلك القيود السياسية سارية المفعول، حسب الكاتب.

تنسب الصحيفة لمدير مركز الدراسات الأوروبية ديمتري سوسلوف قوله إن الناتو يضمن للولايات المتحدة الوجود في أوروبا والتحكم في أمنها. وأنها من خلاله قوّضت أي فرصة لتحويل الاتحاد الأوروبي إلى قطب قوة مستقل وأقصت روسيا من نظام الأمن الأوروبي، وهو ما حال دون تشكيل نظام أمني بينهما.

وردا على السؤال “لماذا لم يتم حلّ التحالف، الذي حد من السيادة السياسية لأوروبا، بعد نهاية الحرب الباردة؟”، يجيب سوسلوف: “في الواقع، لم يستطع القادة الأميركيون على اختلاف توجهاتهم التخلي عن الآلية التي تسيطر من خلالها واشنطن على أوروبا ومواردها من أجل الحفاظ على لقب القيادة العالمية”.

وفيما يتعلق بحقيقة عدم طرح أعضاء الناتو في تسعينيات القرن الماضي مسألة عدم الحاجة إلى الحلف، يوضح سوسلوف أن ذلك يعود لسببين، أولهما الخوف من ترسيخ ألمانيا هيمنتها الأكثر كلاسيكية في حال زوال الهيمنة الأميركية في أوروبا. لذلك، كان الأوروبيون يعتبرون الهيمنة الأميركية أكثر قبولًا مقارنة بالهيمنة الألمانية، أما السبب الثاني، فهو عدم قدرة أوروبا على تحمّل مسؤولية أمنها خلال الحرب الباردة جراء نشأة جيل كامل من النخب يعتمد على الولايات المتحدة.

وفي حين أن عدم القدرة على تحمل مسؤولية الأمن الأوروبي في أواخر التسعينيات تعزى لافتقار أوروبا إلى الخبرة السياسية، يُفسّر سوسلوف العجز الحالي للدول الأوروبية بعد مرور 30 عامًا من نهاية الحرب الباردة بخشية النخب الأوروبية تحمل ما يترتب على مواقع السيادة، وبذلك، ضحّت أوروبا بالسيادة وبحياة أبنائها مقابل وجود الناتو، وبعد نهاية الحرب الباردة، تقول فزغلياد، تبنّى الحلف مهام جديدة على غرار سدّ الفراغ الذي نشأ عقب خروج روسيا من المسرح العالمي، وفي ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى فرض “الديمقراطية الليبرالية” على جميع البلدان الأخرى.

وحسب سوسلوف “كان الناتو في البداية عبارة عن تحالف دفاعي ولم يقد عمليات هجومية خلال الحرب الباردة. ولكن بعد نهاية الحرب الباردة، نفّذ الناتو سلسلة كاملة من المهام خارج نطاق صلاحياته، بما في ذلك العدوان المباشر على يوغوسلافيا وليبيا ومشاركته في تنفيذ عمليات في أفغانستان”.

ولم تُسفر هذه العمليات، وفقا للصحيفة، عن النتائج المرجوة في كل من ليبيا وأفغانستان، وأدت إلى حدوث كارثة حقيقية بسبب عدم قدرة الولايات المتحدة على خوض مثل هذه الحروب آنذاك وإدراك الأوروبيين الخسائر المترتبة عن المشاركة في المغامرات الأميركية، ولمنع تعزيز القوة الأوروبية، قرّرت الولايات المتحدة توجيه جميع الجهود الأوروبية نحو تنفيذ المهمة القديمة والمألوفة ألا وهي احتواء روسيا، دائما حسب فزغلياد.

من أجل التعايش مع روسيا، تقول الصحيفة، صيغ مقترحان أحدهما يضمن التعاون في إطار نظام الأمن الأوروبي المشترك وإدخال روسيا في برنامج التعاون من أجل السلام. ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل نتيجة اعتبار الحلف نفسه الركيزة الوحيدة والحصرية لنظام الأمن الأوروبي وتهميش جميع المؤسسات الأخرى، بما في ذلك منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. أما المقترح الثاني، فكان دمج روسيا في الهرم السياسي لحلف الناتو.

ويضيف سوسلوف أن “روسيا أثارت مسألة الانضمام إلى الناتو أو على الأقل حصولها على صفة عضو غير رسمي في الحلف من خلال مجلس الناتو-روسيا، وكان من شأن انضمامها إليه تغيير ميزان القوى داخله بشكل جذري وتجريد الولايات المتحدة من لقب المهيمن، وهو ما لا يخدم مصالح الأميركيين. ونتيجة لذلك، يصعب على روسيا التي تتبع سياسة أكثر استقلالية الانضمام إلى الناتو دون الخضوع إلى الهيمنة الأميركية، مع العلم أن الناتو يعتبر اتباع تركيا سياسة مستقلة مشكلة تهدده”.

ويرى سوسلوف “أن الناتو لا يستطيع الكف عن اعتبار روسيا عدوًا، ووجوده كمؤسسة أمنية تهيمن على أوروبا ومنطقة أوروبا الأطلسية يستبعد إنشاء نظام أمني أوروبي شامل بمشاركة روسيا، وهذا يعني إما وجود نظام أمني مشترك مع روسيا أو حلف شمال الأطلسي. وبالنظر إلى ضم الناتو أوروبا الغربية والولايات المتحدة، فإنه لا يمكن لروسيا الانضمام إلى الحلف حتى من الناحية النظرية”.

ويعتقد سوسلوف أنه في حال نجحت روسيا في إنشاء نظام أمني مشترك مع أوروبا الغربية، سيكون ذلك إما دون حلف شمال الأطلسي أو في أعقاب تخلي الولايات المتحدة عن هيمنتها في أوروبا.

ويشير الخبير إلى أن الأهداف السياسية لحلف الناتو، التي صاغها أول سكرتير عام  للحلف، اللورد إسماي، مثلت عبئا وتهديدًا حقيقيًا لأوروبا، إذ إن الوجود الأميركي في أوروبا لا يهدد السيادة الأوروبية فقط وإنما أمنها أيضا (في ظل الصراع الأميركي الروسي على الأراضي الأوكرانية وتخطيطها لنشر صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى في أوروبا).

وقد أدت محاولات احتواء روسيا إلى انهيار جميع قواعد ومعايير التعايش في القارة الأوروبية، وحفزت موسكو على شن العملية العسكرية في أوكرانيا وتسببت في اندلاع أزمة سياسية واقتصادية خطيرة داخل الاتحاد الأوروبي.

والحال كذلك، ما الذي أبقته اوروبا من أوروبا ولأوروبا؟

ـ الخوف من تنامي البعبع الالماني، قاد أوروبا للارتماء في حضن البعبع الامريكي، وهكذا كان الهرب من تحت الدلف الالماني إلى تحت المزراب الامريكي؟

Exit mobile version