ما بعد الضربات الإسرائيلية لطهران.. مفاوضات تحت القصف

صندوق المرصد

في فجر يوم لم يشبه ما قبله، تلقت إيران ضربات إسرائيلية نوعية استهدفت مواقع عسكرية وقيادات في الحرس الثوري. ليست هذه المرة الأولى التي تضرب فيها إسرائيل داخل العمق الإيراني أو ضد وجودها الإقليمي، لكنها هذه المرة حملت في طياتها رسالة مختلفة، توقيتًا ومضمونًا.

إسرائيل، التي لطالما تبنّت عقيدة “الضربات الوقائية”، تبدو اليوم أكثر جرأةً وثقة بفاعلية استخباراتها ودقة صواريخها.. ما يجري ليس مجرد استعراض عضلات، بل هو تعبير عن معادلة جديدة في ميزان الردع: الضربات لم تطل أذرع إيران في الإقليم فحسب، بل باتت تستهدف القلب، حيث يصعب التبرير ويستعصي امتصاص هذا التحوّل.

في المقابل، تمتلك إيران أدواتها.. شبكة واسعة من الميليشيات المتحالفة معها في لبنان والعراق واليمن، تجعلها قادرة على الرد، لكن هذا الرد أصبح أكثر كلفة، وأقل قدرة على ضمان عدم الانزلاق إلى حرب إقليمية شاملة، فإيران اليوم محاصرة اقتصاديًا، مثقلة باضطرابات داخلية، ومقيدة دبلوماسيًا وهي تتفاوض مع واشنطن في مسار نووي معقّد.

الضربة الإسرائيلية تأتي في توقيت بالغ الحساسية، إذ تتزامن مع جولات تفاوضية بين إيران والولايات المتحدة حول العودة للاتفاق النووي أو التوصل إلى بديله.

هذه الضربة تطرح سؤالاً صريحًا:
ـ هل تُستخدم القوة العسكرية لتسريع الحل السياسي أم لنسفه؟

من زاوية إسرائيلية، فإن إضعاف طهران عسكريًا قد يعني تليين موقفها التفاوضي، خاصة في ظل ما يُتداول عن اقتراب إيران من “العتبة النووية”، أما من المنظور الإيراني، فقد تولد هذه الضربات إصرارًا على امتلاك الردع النووي كـ”ضمانة نهائية” ضد أي هجوم مستقبلي.

إسرائيل تعي أنها قد لا تكون قادرة على منع امتلاك إيران للسلاح النووي بشكل دائم، لكنها تراهن على تأخيره قدر المستطاع، وخلق معادلة ردع قبل أن يكتمل السلاح.

هذه الضربات لن تكون دون رد، ولم يعد الرد ممكنًا دون تصعيد، وهكذا فالتوازن القلق الذي ساد السنوات الماضية بدأ يتشظى، ومعه تضعف حسابات “الضبط تحت السقف”.

الدول الخليجية، التي دفعت باتجاه تقارب حذر مع طهران، تواجه الآن احتمال انكشافها في قلب معادلة لم تكن جزءًا من قرارها، وأي تصعيد غير منضبط قد يدفعها لمراجعة رهاناتها الأمنية، وربما استعادة الروح القديمة للتحالف مع واشنطن، ولو بشكل تكتيكي.

تركيا تراقب.. روسيا منشغلة، والصين توازن بين المصالح.
لكن في قلب المشهد، تقف واشنطن حائرة، هل تنأى بنفسها أم تعود ضامنًا للاستقرار؟ وهل تملك رفاهية التردد في الخيارات الساخنة؟

ما جرى هذا الصباح قد لا يكون “الضربة” بقدر ما هو الإشارة إلى أن المنطقة باتت أمام احتمالين:

ـ إما أن تتحول الضربات إلى رسائل رادعة تدفع الجميع نحو تفاوض جاد.
ـ أو أن تكون شرارة انفجار مؤجل، يفتح أبواب الجحيم على مصراعيها.

إن توصيف اللحظة الراهنة بـ”زمن ما بعد الصمت” لا يعني بالضرورة أن الحرب واقعة غدًا، لكنه يعني أن منسوب الحذر قد انخفض، وأن الحسابات التقليدية قد انتهت صلاحيتها.

في هذا الزمن الجديد، السلاح يكتب السياسة، والردع يُبنى فوق الرماد، أما التفاوض، فصار يجري تحت القصف.

Exit mobile version