مرصد مينا
المرحلة الأولى في تدمير سوريا ابتدأت بـ “تعميم سطوة الدولة” وتقليص مساحات المجتمع، بما جعل “الدولة” هي المؤسسة “الراعية” لمواطنين على حدود الكفاية، ومعها تضاءل القطاع الزراعي ومعه القطاع الصناعي، ومعهما تضاءلت الحرفة وصولاً إلى قاعدة “تمرمغ في تراب الميري”، والمقصود بالميري هنا “البذلة الحكومية”، ومع هذه المرحلة شطب على حلم الديمقراطية أو تداول السلطة، فلرب العمل وحده يخضع “الرعايا”.
وفي المرحلة التالية، انتقلت نخبة القطاع الحكومي إلى الشراكة مع قطاع التجاري، ومن ثم القفز من موقع الشريك إلى موقع المالك وصولاً لتحويل قطاع التجارة لـ “بروليتاريا” البيرقراط الحكومي، ومن بعده انتقلت السطوة إلى القطاع الزراعي بما جعل منتجات المزارع وأسواقها بيد البيرقراط الحكومي ما أدّى إلى هجرة الأرياف إلى مسارين: أولهما عشوائيات المدن، وثانيهما بلاد الهجرة المستقبِلة من دول الخليج إلى أمريكا اللاتينية، ومع هذه المرحلة تعمّم الخراب على القطاع الزراعي فانحسرت الزراعة وباتت الموارد أقل من تحقيق الكفاية، لتأتي المرحلة اللاحقة ويجهز على الطبقة الوسطى وسط هيمنة الرأسماليات الفاسدة المشتغِلة بكل الاحتكارات وتوليد أسبابها، ومع كل مرحلة ما يوازيها من تمتين قبضة الأجهزة الأمنية بما سمح للجدران أن تحمل آذاناً يتحوّل معها الابن على مُخبِر على أبيه، ومع وراثة بشار الأسد للسلطة كانت الطبقة الوسطى قد انهارت تماماً بما قسّم المجتمع إلى “ناسين”:
ـ ناس العشّة وناس القصر.
ومعها حدث الانفجار الكبير، ومعه انتقلت السلطة إلى الخراب الكبير عبر الاجتياحات العسكرية التي ابتدأت باجتياح الأرياف ومن ثم انتقلت إلى اجتياحات المدن، فكان الدمار أوسع من أيّة حرب شهدها شرق المتوسط، بل حتى مناطق أفريقية عانت وابل الفقر ومن ثم وابل الاقتتالات الأهلية.
واليوم، هده هي سوريا المجزّأة، وهاهي سياسات إحلال “سكّان مكان سكّان” في لعبة تهجير وتهجير مضاد وفي اللعبة الأشد قسوة وهي إحداث التحولات الديمغرافية التي ستطرح نفسها على المستقبل أكثر مما ستطرح أسئلتها على الماضي، فإذا كان ثمة تسويات في البلاد فلابد ستواجه التسويات السؤال الأعقد:
ـ هل سيستعيد المرحلون من المكان مكانهم القديم أم سيستمرون في احتلال أمكنة مواطنيهم القدماء في صيغة عنوانها “ضحايا بمواجهة ضحايا”؟
ذلك هو السؤال الأصعب الذي ستواجهه سوريا وقد يكون مثاله الأكثر وضوحاً:
ـ هل سيستعيد العفرينيون بيوتهم وزيتونهم ما بعد ترحيل ناس “الغوطة” إليها، ومن سيستعيد منهما ما خسر؟
هل يعود الغوطاني إلى الغوطة فيما يعود العفريني إلى عفرين؟
حتماً سيكون الاستعصاء، وهو بـ “الزبط والتحديد” ما اشتغل عليه الأسد الابن ما بعد وراثة خراب أبيه ليكون الخراب الأكثر استعصاء على أيّة تسوية او حلول.
هذا إذا ما توقف الخراب بدءاً من اليوم، فكيف إذا كانت سيناريوهات الخراب مازالت تشتغل؟
مازالت سيناريوهات الخراب تشتغل، ولهذا رفعت السويداء رايات طرد السلطة عن أراضيها، فقد اختار ناسها المراحل كلّها بدءا من:
ـ المرمغة في تراب الميري، وصولاً لاستثار السلطة بالنقمة والنعمة ومن ثم الخراب .. كل الخراب.
حوران السهل تدرك هذا ولهذا تشتغل على :
ـ تحصين ما تبقّى منها.