fbpx
أخر الأخبار

ما بعد “ذبيح الله”

نبيل الملحم

“أمان الله خان”، وليس “ذبيح الله”.. من يتذكر هذا الاسم؟
كان ملكًا لافغانستان، وانتهى منفيًا في سويسرا، ثم خلفه “عناية الله خان”.
ـ خلفه؟
ـ نعم.. ملكًا لثلاثة أيام فحسب.
ثم أطيح بالثاني، ذلك أن بريطانيا العظمى، كان عليها أن تبقي الأفغان يمشون على حوافر البغال، وإذا مافكّروا بسكك الحديد فلابد من “الويل والثبور”.
أمان الله حمل تاجًا منذ ولادته 1892 حتى أٌقسِر على التنازل عن العرش بضغط بريطانيا عام 1929، وكان الرجل قد حطّ أقدام بلاده في الحداثة وعصر التجديد، ولم يكن لينال رضى المملكة التي لاتغيب عنها الشمس، ولكن العناية الإلهية لم تعن بخليفته “عناية الله”، فكانت أقداره على العكس من اسمه.
إنها أفغانستان وكان مصممو الأزياء في زمن الملكين الشقيقين يتجولون في بناتها، واستمر تجوال ملوك الأزياء في أفغانستان:
ـ تنانير لما فوق الركبة، وقامات تحكي ألف ليلة وليلة.
وبوسعك أن تقول “كان في أفغانستان شعراء، وكتاب، وثقافة، وليس فقط رجال يتجولون بأحزمة ناسفة ولحى مصبوغة بالحنّاء.. لأفغانستان “عتيق رحيمي”، صاحب «حب في المنفى»، التي ترجمت أخيراً إلى العربية، و«حجر الصبر»، التي فازت بـ«غونكور».
كان هتاف “الله أكبر” معمول به في أفغانستان، دون اللجوء إلى السكاكين، ثم خُلِقت السكاكين في غفلة من الله و “بإسم الله”، فبات “الله أكبر” مرفقًا بأسنان السكاكين وبترخيص أمريكاني.
من صنّع تلك السكاكين؟
ول ديورانت، وهو صاحب قصة الحضارة، يحكي ودون وجل، عن الانحطاط الأمريكي.. يعني انحطاط القيم لا انحطاط التكنولوجيا، فللتكنولوجيا آلهة أمريكان، بما جعلها امبراطورية تكنولوجيا المستحيل.
ومن قال أن “تنظيم القاعدة” لم يكن من تكنولوجيا الأمريكان؟ وأن أسامة بن لادن ليس من مشتقات “الـ CIA”، وقد انتهى على يد الـ CIA إلى قارعة البحار؟
انتهى الرجل يوم انتهى الدور، تلك قاعدة أمريكانية فلكل عند الأمريكان “انتهاء صلاحية”، بدءًا من معجون الأسنان واللحوم المجففة، انتهاء بالأبطال، فما أن انتهى الرجل من مقارعة السوفييت حتى “كش”، لا كملك، بل:
ـ كشّ كما لو قاطع طريق.
ولا بأس أن تحدث الفضيحة المجلجلة، فللأمريكان تراث فضائحي، ينتهي على الغالب بالاعتذار، وإلاّ كيف كان لهم إشادة متحف لفراء رؤوس الهنود الحمر مرفق بـ :
ـ سامحونا.
في فيتنام، ساعد الأمريكان الفايتكونغ على مواجهة الفرنسيين، ثم مالبثوا أن الحقوا الفايتكونغ بالجحيم، وليس على من فقد ذاكرته نسيان أيام النابالم الامريكية وهي تعمل حرائقها بالفيتناميين.. بحلفاء الأمس، تلك هي أمريكا وأولئك هم الأمريكان.
ـ تنتهي صلاحيتك، تخرج من المستودعات ومنها إلى قارعة الجحيم، وهذا هو بالتمام والكمال ماوقع بالأمس يوم تخلّوا عن الرئيس الأفغاني، أشرف غني، وعن حكومة الوحدة الوطنية، وعن وزرائه وعددهم 25، من بينهم ثلاث نساء، وسط بث تلفزيوني لاينقطع، ليكون يوم 15 آب/ أغسطس 2021، هو يوم “الشاشة الأفغانية”، وكانت الكاميرات تنقل بالمباشر، تقاطر عشرات الآلاف من الأفغان، إن لم يكن مئات الآلاف، إلى المطار لركوب الطائرات الأميركية التي أرسلت لإجلاء الرعايا الأميركيين ومن أسماهم مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان بـ “المتعاونين الأفغان”.
ـ تلك أمريكا، وما العيب في ذلك؟
يوم كان السوفييت في أفغانستان، وكانوا يطلقون على أفغانستان “جمهورية أفغانستان الديمقراطية الاشتراكية الوليدة ” ترك الفتى “جول آغا” مذكراته هناك، كان خائفًا ومتعرقًا ويبلغ من العمر 19 عامًا وهو يرتدي زيًا أفغانياً سيئًا وحذاءًا كبيرًا للغاية ، وقد عبر الجسر في ظل الحرارة الشديدة ، عبر نهر أموداريا في شاحنة عسكرية ودخل في عالم الواقع المرير، عالم أفغانستان:
ـ عالم الهويات والولاءات غير المتوقعة وغير القابلة سوى للتنبؤ المرير.
يكتب في مذكراته عن “المستذئبين”، أو عن المجاهدين المدعومين من الولايات المتحدة، لنقل عن أبطال الحرب الأهلية الأفغانية اللاحقة وقد حصدت أكثر من مليوني قتيل أفغاني ، وتحويل الكثيرين إلى لاجئين ، وتحويل الدولة الغربية العلمانية ونعني بها الولايات المتحدة، إلى ملاذ للقاعدة وساحة معركة لأطول نزاع مسلح في العصر الحديث.
مازال “جول آغا” يعاني من ندبة شاحبة ومن جرح رصاصة في فخذه الأيمن.. لا يزال يعرج، فيما تمتلئ كوابيسه العرضية بصفارة الرصاص عالية الحدة وصيحات رفاقه المحتضرين بين ذراعيه على يد مفخخات طالبان، وكانت طالبان الابن البكر لأمريكا في أفغانستان، وهاهو اليوم يشاهد بنهم الأخبار حول اندفاع طالبان عبر أفغانستان والسيطرة على المدن الكبرى، وسط صيغة أمريكانية ثابتة:
ـ الجمهوريون يقولون اهجموا.
ثم يأتي الديمقراطيون ويقولون :
ـ انسحبوا.
ومع انسحبوا هذه، ترتفع زغاريد كتاب وسياسيون عرب ومسلمين، كتاب من طراز “ماركسي” وآخرون بطبعة إسلامية، وكليهما يهللان للانسحاب الأمريكي من أفغانستان، في عناق حار ما بين ورثة الشيخ عبد العزيز ابن باز، وورثة الرفيق خالد بكادش، وتعم الفرحة على الجميع وقد شبه الأولون “ذبيح الله” بـ “موسى بن نصير”، فيما ذهب الماركسيون إلى تشبيهه بـ “هوشيه منه”، وتعلو رقصة السكاكين.
وها نحن اليوم على قارعة التاريخ، ومن تلك القارعة نقرأ:
ـ ما قبل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ليس ما قبله.. لقد فتح السيد جو بايدن بوابة المغارة للمستذئبين.
تأملوا في قسمات وجه الناطق الرسمي باسم طالبان.
قد تشي قسماته بالكثير، يحدث ذلك حين لاننسى أن اسمه:
ـ ذبيح الله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى