يخطئ من يظن بأن فلاديمير بوتين أقل غموضًا من جليد موسكو، فالرجل جاء من تلافيف الـ كي جي بي، ومضى ليشتغل على عنوان عريض اسمه “استعادة كرامة روسيا”، وهو الشعار القادم من بعد انهيار الامبراطورية االسوفييتية على يد جينادي غورباتشيف واستكمالاته على يد السكّير بوريس يلتسين، سوى أن الواضح من كل الغامض، أن استعادة الكرامة الروسية إياها لابد وتبدأ من “سوريا”، ولا ضير إن كانت على حساب الدماء السورية، وبالطريق لن يكون “جمود” المسألة السورية أمرًا مقلقًا للرئيس الروسي، كما لن يكون ازاحة المسألة السورية من عناوين الاخبار ليشكل أي قلق للرجل القادم من الجليد.
ربما سيكون الحال على العكس من ذلك وفق رؤية مواطنته آنا بورشفسكايا التي تقول بأن بوتين يبدو سعيداً بالنزاع المجمد في سوريا طالما أن أحداً لا يولي اهتماماً جدياً بتلك البلاد.
حال الرئيس الروسي سيكون على العكس من الرئيس الأمريكي جو بايدن، فعلى الضفة االأمريكية، وإلاّ “ستتداعى المصالح الأمريكية وتتتعفن”.
وبورشيفسكايا وهي مؤلفة الكتاب الجديد “حرب بوتين في سوريا: السياسة الخارجية الروسية وثمن غياب أمريكا” اعتبرت أن الانخراط الحالي لفلاديمير بوتين في سوريا، جزئياً [على الأقل]، امتداداً طبيعياً لمصلحة بلاده القائمة منذ قرون في الشرق الأوسط عموماً، وفي شرق البحر المتوسط على وجه التحديد، وعبر التاريخ، لطالما ساور روسيا قلق كبير بشأن حدودها الجنوبية، معتبرةً إياها نقطة ضعفها الرخوة، وينفرد بوتين ببعض جوانب تدخّل موسكو في سوريا، بينما تقوم الجوانب الأخرى على التعاملات القصيرة الأجل، لكن المصالح الروسية في المنطقة أعمق بكثير من المشروع الخاص بالزعيم الحالي.
ولفهم هذه المصالح وفق بورشيفسكايا، يجب أن نقر بأن روسيا تمتلك رؤية لعالم متعدد المراكز، وأن هذه الرؤية تتعارض بطبيعتها مع أهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ونتيجةً لذلك، ركزت موسكو منذ فترة طويلة على كبح النفوذ الأمريكي في الخارج، وقد ورث بوتين وجهة النظر هذه وتصرّف على أساسها بطرق جديدة، فمنذ البداية، سعى إلى إعادة انخراط روسيا في الشرق الأوسط، وهو أكثر واقعية واستعداداً من أسلافه لتنمية العلاقات مع كافة الأطراف في المنطقة، ومع ذلك، فإن رؤيته المعادية للغرب دفعته إلى تعزيز أعمق العلاقات مع قادة ذوي التفكير المماثل من أمثال الرئيس السوري بشار الأسد.
وبالتالي، فمنذ اندلاع الحرب السورية، كان بوتين مصمماً على منع سقوط الأسد، فلم يكن يريد أن يرى الولايات المتحدة تُطيح بقائد مستبد آخر من طراز معمر القذافي أو صدام حسين، لذلك شرع في حماية الأسد بطرق متعددة حتى قبل التدخل العسكري الروسي في عام 2015 .
واليوم ؟
اليوم حقق هذا الهدف دون أن يتورط في أزمة أو يتكبد تكاليف باهظة، ونتيجة لذلك أخذت سائر المنطقة في الحسبان موقف روسيا المعزز في سوريا – ففي نظرها يتناقض التزام بوتين بحماية الأسد بشكل صارخ مع الموقف المتأرجح للدول الغربية.
وعلى الأرجح ستعود سوريا الآن إلى حالة النزاع المجمّد، وقد يكون ذلك مناسباً للغاية بالنسبة لروسيا التي تتمتع بخبرة واسعة في التعامل مع مثل هذه النزاعات، وقادرة على الصمود في هذه البيئة. كما يمكن لموسكو أن تعمل كوسيط، والتحدث مع جهات فاعلة معيّنة لا يمكن للآخرين التفاوض معها، وإذا تمكّنت الأطراف من التوصل إلى حل فعلي في سوريا، فلن يحتاج أحد إلى بوتين، لكن الجميع سيكون بحاجة إليه إذا تم فقط إدارة النزاع.
وحالياً؟
حاليًا، لا يزال العالم أحادي القطب وتستمر الولايات المتحدة في تمتعها بالعديد من المزايا، لكنها قد تفقد هذه المزايا إذا أساءت التعامل مع الشرق الأوسط، ولهذا تولي واشنطن أولوية قصوى للصين، لكن لا يجب التعامل مع سوريا على أنها مجرد مصدر إلهاء.
السؤال الفعلي ليس ما إذا كان بإمكان الولايات المتحدة التصدي للنفوذ الروسي في سوريا، بل ما إذا كانت ستدرك الأهمية الاستراتيجية للنزاع وتستثمر الموارد الضرورية لتحقيق أهدافها هناك.
في الإجابة، لن تكون سوريا ملفاً سهلاً للتعامل معه بغض النظر عن النهج الذي تتبعه واشنطن، لكن الأسد يُعتبر من أسوأ الديكتاتوريين في أيامنا هذه، لذا فإن اتخاذ موقف أقوى وأكثر صرامةً كان ضرورياً منذ البداية، ولا يزال كذلك حتى يومنا هذا.
ومن الناحية المثالية، ستعيد روسيا تأهيل نفسها يوماً ما وتغيّر سلوكها الحالي. ويقيناً، لا توجد سوابق كثيرة لمثل هذا التحوّل – على الرغم من أنه كان بالإمكان العثور على أصوات ليبرالية بين القيادة الروسية في وقت مبكر من فترة ولاية بوريس يلتسن خلال التسعينيات، لكن سرعان ما تم إبعادها، وأُغلقت نافذة الفرصة تلك.
فرصة من الصعب الاكتفاء بالقول:
ـ نأمل أن يُعاد فتحها في المستقبل.
المرجّح أنها الفرصة التي لن تأتي أبدًا.