مرصد مينا- هيئة التحرير
في الوقت الذي تنشغل فيه القوى والأحزاب السياسية العراقية بنتائج الطعون التي أفرزتها الانتخابات التشريعية الأخيرة، فجرت هجمات المقدادية التي بدأت مساء الثلاثاء الماضي، موجة من أعمال العنف الطائفية في محافظة ديالى شرقي العراق، وسط قلق من تصاعد التوتر وامتداده إلى أنحاء أخرى من البلاد التي تعيش على وقع أزمة سياسية مستفحلة، خلفتها نتائج الانتخابات التشريعية.
وبينما يحذر مراقبون من جر البلاد للفتنة الطائفية مجددا، خاصة أن المجازر الأخيرة وقعت في مناطق مختلطة مذهبيا، تكشف أوساط سياسية عراقية عن مخاوف جدية من أن تعمد بعض الأطراف الخاسرة في الانتخابات التشريعية الأخيرة إلى تأجيج التوترات الطائفية، لإعادة خلق أمر واقع جديد، مشيرة إلى مكان وزمان أحداث العنف الأخيرة.
هجمات إرهابية وموجة نزوح
خلال الـ27 ساعة الماضية، سجل العراق هجمات إرهابية متتالية، استهدفت اثنتان منها، قرى نائية عند أطراف محافظة ديالى، وأنذرت بتأجيج الصراع الطائفي في البلاد، حسبما أكدت مصادر أمنية عراقية، مشيرة إلى أن الهجمات أسفرت عن مقتل أكثر 21 مدنيا وجرح 40 آخرين، في وقت تتحرك فيه القوات الأمنية عبر تعزيزات عسكرية للسيطرة على الوضع في المنطقة.
المصادر الأمنية، قالت إن 11 شخصا، قتلوا في قرية ذات غالبية سنية بشرق العراق، ردا على اعتداء تبناه تنظيم “داعش” على قرية مجاورة ذات غالبية شيعية وأوقع 15 قتيل.
وكان هجوم تبناه تنظيم “داعش” وقع ليل الثلاثاء في قرية الرشاد بمحافظة ديالى، قد أسفر عن مقتل 15 شخصا وإصابة 26 آخرين بجروح في حصيلة نهائية، حسبما أفادت مصادر أمنية عراقية لوكالة “فرانس برس” أمس الخميس، مؤكدة وقوع عمليات “انتقامية” ردا على ذلك الهجوم.
وتبنى تنظيم “داعش” في بيان، الهجوم الذي استهدف قرية الرشاد التي ينتمي غالبية سكانها من الشيعة إلى عشيرة “بني تميم”، وكان معظم الضحايا من المدنيين، وينتسب العديد من أبناء القرية إلى القوى الأمنية.
ومساء الأربعاء، نفّذت مليشيات مسلحة سلسلة من الهجمات الانتقامية على قرية “نهر الإمام” ذات الغالبية السنية، وقامت بعمليات إعدام طاولت حتى الآن 11 مدنياً، فضلاً عن حرق مستوصف صحي ومسجد و9 منازل، بالإضافة إلى سيارات وبساتين في القرية، قبل أن تضطر قوات الجيش إلى فرض حظر التجوّل في أجزاء واسعة من المحافظة.
على إثر ذلك، نزح ما لا يقل عن 110 عائلات من قرى عدّة، شمال شرقي مدينة بعقوبة مركز محافظة ديالا، خوفاً من هجمات انتقامية تنفذّها فصائل مسلّحة، على إثر الهجمات الإرهابية في المنطقة، حسبما أكدت مصادر محلية في ديالى، مشيرة إلى أن غالبية العائلات النازحة توجّهت إلى مناطق القاطون وبعقوبة، وبات كثير منهم داخل مساجد في تلك المناطق، بينما هناك آخرون نزحوا لمناطق أخرى خارج المحافظة.
مخاوف من “حرب طائفية”
لم يكن الهجوم الذي شنه تنظيم “داعش” في قرية الرشاد، اختراقاً أمنيا بقدر ما يشكل استهدافاً لضرب التعايش السلمي في ديالا على وجه الخصوص والعراق عموما، خاصة أنه قاد بعد نحو ساعات لرد فعل انتقامي نفذته عناصر مسلحة استهدف قرية مجاورة، يقول الباحث في الشأن العراقي “عدنان الجبوري”، الذي يحذر من تطور الأحداث وحصول حرب طائفية “شيعية – سنية” قد تعيد العراق إلى المربع الأول، بحسب تعبيره.
ويضيف “الجبوري”، إن ما زاد من الوضع سوءا، قيام بعض القنوات التابعة للميليشيات الولائية عبر منصة تليجرام، بنشر أخبار تثير “الطائفية”، ومنها وسم #شيعة_بني_تميم_تذبح، مطالبا الحكومة بالتدخل لتهدئة الوضع ومحاسبة كل من تسبب بـ “مجزرة المقدادية”.
وتعيد مثل هذه الحوادث في العراق إلى الأذهان ذكريات أليمة لحرب طائفية، قتل فيها الآلاف بعد الغزو الأميركي في العام 2003 وسقوط نظام الرئيس الراحل “صدام حسين”.
علامات استفهام حول التوقيت والمكان..
الخبير الأمني، “عبد الرحمن شاهين”، يرى أن “تزامن تلك الهجمات بالمكان والزمان ليس بالصدفة أو الأمر العائم غير المخطط له مسبقاً، وهو كذلك لا يخلو من البعد السياسي، موضحا أن اختيار الزمان يقصد منه غياب البرلمان بوصفه يلعب دور الأشراف والمتابعة لمسار القوات الأمنية، أما المكان فهو يسعى لإذكاء الفتنة الطائفية في خواصر مازالت تصنف على أنها قلقة أمنيا، رغم أنها مختلطة مذهبيا.
ويقول “شاهين” إن هناك جهات تحاول إثارة النعرات الطائفية والمذهبية في ديالى خاصة والعراق عموما، لافتا إلى أن الهجمات في قضاء المقدادية “لا تخلو من بصمة سياسية يهدف من ورائها إثارة التناحر المجتمعي وتهديد السلم الأهلي، باعتبار أن المنطقة برمتها وليس العراق فقط، تعصف بها إرادات الغاية منها إحداث تصادم في الهويات الفرعية تحت ما يسمى بالتوازنات الإقليمية والدولية.
كما يتوقع “شاهين” أن تشهد الفترة المقبلة، مطالبات من الميليشيات الموالية لإيران، بمنحها السيطرة على تلك المناطق التي تشهد انفلاتا أمنيا متعمدا على غرار مناطق أخرى، كانت تتميز بتنوعها المذهبي.
ويقول مراقبون إن المجموعات الشيعية المسلحة الموالية لإيران لها مصلحة أيضا في استغلال ما يحصل، خاصة بعد الانتكاسة الانتخابية التي منيت بها والتي كشفت عن تقهقر شعبيتها بشكل كبير.
يشار إلى أن تحالف “فتح” المظلة السياسية للميليشيات الشيعية الموالية لإيران مني بهزيمة قاسية في الاستحقاق الذي جرى في العاشر من أكتوبر، حيث لم يحصد سوى 17 مقعدا بعدما حل في المرتبة الثانية في انتخابات 2018 بـ48 مقعدا.
وكانت الميليشيات الشيعية قد كسبت دعما كبيرا في السنوات الماضية بفعل المعارك التي خاضتها ضد تنظيم داعش، بيد أن هذا الدعم تراجع إلى حدّ كبيرا، وفقدت هذه المجموعات بريقها بعد تحولها إلى دولة داخل الدولة، وعناصرها فوق القانون والمحاسبة.
في هذا السياق، يرجح “شاهين” أن تعمد هذه الميليشيات إلى إثارة الورقة الأمنية لشد العصب إليها مجددا، بيد أنه ليس من المتوقع أن تحقق الكثير بعد أن باتت أوراقها مكشوفة للغالبية العظمى من الشعب العراقي.
يذكر أن العراق أعلن في أواخر العام 2017 انتصاره على تنظيم “داعش” بعد طرد الجهاديين من كل المدن الرئيسية التي سيطروا عليها في العام 2014، فيما قتل زعيم التنظيم أبوبكر البغدادي في العام 2019.
استنساخ تجربة جرف الصخر
في تعليقه على مجزرة المقدادية، تحدث المتحدث باسم كتائب “حزب الله” العراقية، “أبو علي العسكري”، عما وصفه اختراق قيادة العمليات المشتركة، من قبل ما أسماه “عصابات الكاظمي وأرباب الدواعش والبعثيين”، وقال في “تغريدة” على “تويتر” إن “إرادة دول الشر بعثت برسالتها الجبانة إلى شعبنا الأبي عبر أداتها الإجرامية، بأن ليس أمامكم غير الرضوخ، وهو ما يستدعي أن يأخذ الحشد دوره في طرد الأشرار وإخماد الفتنة بعيدا عن قيادة العمليات المشتركة التي تم اختراقها من قبل عصابات الكاظمي وأرباب الدواعش والبعثيين”.
وأضاف: “في الوقت الذي نستذكر فيه بطولات أبناء المقاومة الإسلامية والحشد والقوات الأمنية التي تحررت بها مدينة جرف النصر من عصابات داعش، نشد على ضرورة استنساخ هذه التجربة في مناطق التوتر الأمني”.
في تعليقه على كلام “العسكري”، يؤكد المحلل السياسي “حسين العمر” أن حكومة “الكاظمي” تتحمل مسؤولية تصاعد التوتر في ديالا، متسائلا عن سبب بقاء خطوط التماس المذهبية العراقية في محافظات صلاح الدين وديالى وكركوك وأجزاء من بغداد وحتى في نينوى، هشة ورخوة أمنيا، ولماذا لا يزال هذا التنظيم الإرهابي يتحرك في هذه المناطق بل ويسيطر على مناطق منها، رغم مرور سنوات على اعلان هزيمته وتحرير المناطق العراقية التي كان يحتلها في العام 2017″.
ويشير العمر إلى أن هذا الأمر “يشي أنه هناك ربما من يستفيد من وجوده وبقائه في تلك المناطق، لتسعير نار الفتنة المذهبية بين العراقيين، وابقائها متقدة”.