مملكة الحفرة، حفّارها برتبة رئيس

كان المرسوم الجمهوري يعد السوريين بـ “العفو العام”، وما أن انفتحت بوابة من بوابات السجن، حتى أدرك السوريون وربما العالم معهم، أن البلاد كل البلاد سجن، وأن الأعداد القليلة الخارجة من زنزانته، خرجوا إما فاقدي الذاكرة، أو فاقدين لمن ينتظرهم من أهاليهم الذين غيبهم الموت مابعد سنوات من الانتظار المرير لمصائر أبنائهم التي لم تغادر المجهول.. مصائر استدعت إحدى السيدات المنتظرات تحت ما يسمى بـ “جسر الرئيس” لمخاطبة الكاميرا”لي ستة معتقلين لم يخرج اي منهم، عسى ان يكون واحدًا منهم، واحدًا على قيد الحياة، واحدًا ياربي يكفيني”، وكان المشهد تحت ذلك الجسر بمثابة الجحيم، جحيم بكل ما لخيالات الجحيم أن تصوّره بما يتخطى أساطير الجحيم الذي وعِد به البشر الضالين.

غير أن السوريين ليسوا من الضالين، السوريون ناس طيبون، ومضيافون، وتاريخ بلدهم طالما ارتبط بتاريخ السلام، حتى أنك لن تصادف لحظة وأنت تتجول في شوارع دمشق، دون أن يرفع رجل لاتعرفه ليخاطبك بـ :

ـ السلام عليكم.

السلام، الكلمة التي رددها السوريون عبر ستة آلاف عام من تاريخ المدينة، وهاهم اليوم “تحت الجسر”، شقيق ينتظر شقيقه وقد خرج من ناقلة السجناء، وإن لم يحضر الشقيق فقد يكتفي بـ “خبر عن الشقيق”، خبر ينبئ بانه مازال على قيد االحياة، أو خبر يؤكد موت الشقيق أقله لتسير الجنازة على درب اليقين بعد سنوات الحيرة التي أمضتها الام بانتظار ولدها البكر، فيما أم أخرى تنتظر حزمة أولاد وقد غيّبهم المجهول.

“تحت جسر الرئيس”، هو قطعة من جحيم، لا، بل هو الجحيم، الجحيم الذي يستنطق ألف جحيم وجحيم.. أياد تحمل صور الأبناء، وامهات تستنطقهن كاميرات التلفززيون والهواتف المحمولة.. سيدات لايذرفن الدموع، ربما لجفاف في مدامعهن، وربما لاستنزاف ما تبقى من الاحزان نحو حزن جديد أشد هولاً من الحزن االقديم.

بلد الفاجعة التي تتلو فاجعة.

في أمسها، كانت فيديوهات الحفرة، واليوم فيديوهات “جسر الرئيس”، وما أن يردموا حفرة حتى يفتحوا حفرة.. بلد احالوه إلى حفرة، والناس، إما ماتوا فواتاهم النوم وشق لهم طريق الخلاص، وإما في صحوة الحفرة يحتضرون بلا أمل بالنجاة.

سوريا حفرة، حفّارها على رأس التلة يدير برفقة الليدي “إيمي” مملكة الجحيم.

Exit mobile version