
نبيل الملحم
في كل مرة أشاهد فيها وثائقياً عن معسكر أوشفيتز النازي، يثقلني السؤال:كيف استعاد أولئك الناجون حياتهم بعد كل ما رأوه؟
وحين أستعيد صورة سجن صيدنايا في سوريا، يتكرر السؤال، لكنه يزداد قسوة، أقله لأن من رفاق العمر من كان في عتمته، ليكون السؤال:
ـ هل يمكن أصلاً أن تستعاد الحياة بعد مثل هذا الجحيم؟
بين معسكر الإبادة في بولندا النازية، وسجن الموت السوري، أكثر من سبعين عاماً من التاريخ، لكن درجة الوحشية تكاد تتطابق، ويظل السؤال نفسه:
كيف يعود من لم يعد كما كان؟
في أوشفيتز، كانت الإبادة مشروعاً مؤسسياً، يدار كآلة بيرقراطية دقيقة : غرف غاز، جثث تحرق، وجنود ينفذون التعليمات، أما في صيدنايا، فالموت لايخضع لحساب، بل يتم بتلذذ، بفوضى، بقسوة غير قابلة للتفسير، فلا كاميرات ولا اعترافات ولا سجلات.. فقط أجساد تتهاوى في العتمة وبلا أسماء.
إن كان أوشفيتز رمزاً للقتل الجماعي المنظّم، فإن صيدنايا هو وجه الإبادة الصامتة، تلك التي تحدث على مرأى عالم يعرف لكنه لايريد أن يرى.
الناجون من أوشفيتز عادوا إلى عالم يريد أن يعرف.. سُمِع صوتهم، واحتُفي بشهاداتهم، وتحوّل بعضهم إلى شهود على عصر، بينما اختار آخرون الصمت أو انتحار النطق عاجزين عن التعايش مع الذاكرة.
أما الناجون من صيدنايا، فعادوا إلى صمت مزدوج:
ـ تأخر العدالة الإنتقالية التي تعني “النُطق” بما حدث.. وعما حدث.
ـ وصمت مجتمع لم يشتغل حتى اللحظة على استعادة كرامة هؤلاء المتروكين لمصائرهم كما لو لم يدفعوا أثماناً بالنيابة عنا نحن الصامتين، وكأن على الناجي من صيدنايا أن يُبرر نجاته لا أن يرويها.
البعض يكتب، لكن الغالبية تنسى، ليس فقط خوفاً، بل لأنه اليأس من تفعيل الذاكرة، فالخارجون من صيدنايا، لم يخرجون من الجحيم، بل مازالوا يحملون الجحيم في داخلهم.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وقفت محكمة نورمبرغ لتقول أن الجرائم لاتموت بالتقادم، ومن بعدها وُضِع الجلاد في القفص، وسُمعت أصوات الضحايا.
وفي سوريا، لم يُحاسب صانع الجحيم، لتكون العدالة المؤجلة، وهي العدالة التي قد لاتأتي أبداً.
هذا الفارق لايقل أهمية عن كل فروقات الجغرافية والزمن، لأن الناجي لايمكنه أن يُشفى في ظل الإفلات من العقاب، فالعدالة في هكذا حالة هي “شرط العودة إلى الحياة”.
قد لايكون الناجون بحاجة عطفنا، بل هم الأحوج للاعتراف، اعترافنا، كأن يقال لهم:
ـ نعم ماعايشتموه كان جحيماً.
أن يُصغى لهم وبكل مكبرات الصوت التي تنقل صرخاتهم.
في أوروبا ما بعد الحرب، كان ذلك ممكناً.
وفي سوريا حتى اللحظة ما يزال الممكن مُحتَملاً.. محتًملاً فقط.
والنتيجة؟
الناجي يبقى عالقاً بين موتين:
ـ واحد في الزنزانة، وآخر في ذاكرة لايراد لها أن تُفتَح.. أو يراد أن يؤجَل فتحها.
والحال كذلك:
ـ هل النجاة ممكنة؟
النجاة ليست لحظة الخروج من السجن، بل هي مسار طويل من استعادة المعنى.. استعادة الصوت واستعادة الكرامة، فالناجون لايطلبون أن نعيد لهم ما سُرق منهم، فالزمن ليس من المسروقات التي بالوسع استردادها.
ـ إنهم يطلبون أن لا تُسرق روايتهم.
وما لم يُمنح الناجون الحق في الذاكرة والعدالة، فالجحيم لم ينته بعد، ووحدهم يكتبون روايتهم.
لقد حاولنا أن نحل محلهم.. أن نكتب روايتهم، وأنا واحد ممكن كتبوا الرواية وكان لها عنوان “سرير بقلاوة”، غير أنها كانت روايتي عنهم، لاروايتهم هم، والجرح لايوجع إلاّ حامله.
ـ آن لهم أن يكتبوا روايتهم.