من التحريض الرقمي إلى الحرب الأهلية: التجربة السورية لعبة الهاوية

صندوق المرصد

لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي، في بداياتها، أكثر من مساحة بديلة للكلمة والصورة، تكسر احتكار الإعلام الرسمي وتمنح الأفراد فرصة إيصال أصواتهم إلى أبعد من حدود جغرافيا القمع.

لكن المنصات التي وُلدت بوعد الحرية، تحوّلت بمرور الوقت إلى أداة فاعلة في صناعة الانقسام والتحريض، حتى أصبحت في بعض البلدان وقودًا لحروب أهلية كاملة الأوصاف.

في جوهر المسألة، لا تعمل هذه المنصات على تقديم الحقيقة بقدر ما تعمل على إبقاء المستخدم أطول فترة ممكنة أمام الشاشة. الخوارزميات تدرك أن الغضب والانفعال هما وقود البقاء، فتضخّم المحتوى الصادم، وتعيد تدويره، وتدفع به إلى الواجهة.

هكذا يصبح خطاب الكراهية ليس مجرد انحراف، بل منتجًا رقميًا مربحًا، تُسهم في صناعته جيوش من الحسابات الوهمية وغرف التضخيم، المدفوعة أحيانًا بمصالح دول، وأحيانًا أخرى بدوافع أيديولوجية أو طائفية.

التجربة السورية تقدم مثالًا بالغ القسوة على هذا التحول. مع بدايات الثورة، لعبت السوشال ميديا دورًا في كسر التعتيم الإعلامي، فانتشرت صور المظاهرات، وارتسمت حالة تعاطف واسعة داخل وخارج البلاد. لكن سرعان ما تغيّر المشهد: الخطاب انزاح تدريجيًا من المطالبة بالحرية إلى خطاب التخوين والتخويف، والمقاطع المصوّرة بدأت تُستخدم خارج سياقها الزمني أو المكاني لإشعال الغضب.

ومع تشكل “فقاعات الرأي” المغلقة، صار كل طرف يعيش داخل غرفة صدى لا يسمع فيها إلا صوته، ولا يرى إلا ما يبرر عداءه للآخر. هذا الانغلاق النفسي والفكري مهد الأرضية لخطاب يبرر العنف، وفتح الطريق نحو حرب أهلية شرسة.

ولسوريا أشباه في العالم. في رواندا عام 1994 لعب الراديو دور أداة إبادة، لكن لو كانت السوشال ميديا موجودة آنذاك لكان حجم التحريض وانتشاره أسرع وأفتك.

وفي ميانمار، تحوّل فيسبوك إلى منبر للتحريض ضد الروهينغيا، ما أسهم في كارثة إنسانية واسعة. حتى في الولايات المتحدة، حيث لا حرب أهلية، شهدنا كيف غذّت المنصات الانقسام السياسي وصولًا إلى اقتحام مبنى الكونغرس.

هذه الوقائع تكشف أن المشكلة ليست في التقنية ذاتها، بل في تقاطع مصالح الربح مع مصالح التحريض، وفي غياب آليات فعالة لمحاسبة صانعي خطاب الكراهية. المجتمعات التي تريد أن تحمي نفسها تحتاج إلى محو أمية رقمية حقيقي، يعلّم الأفراد كيف يقرأون المحتوى النقدي وكيف يميّزون بين الخبر والتحريض، كما تحتاج إلى قوانين صارمة تربط الجريمة الرقمية بمساءلة قانونية واضحة.

السوشال ميديا، كأي أداة، يمكن أن تكون جسرًا أو هاوية. لكن حين تتحول الخوارزميات إلى مهندسي غضب، ويتحول الغضب إلى سلاح، فإن النتيجة الطبيعية هي الدم.

ـ التجربة السورية ليست قصة محلية، بل تحذير عالمي لمن أراد أن يسمع.

Exit mobile version