من سيحررنا استعبدنا، ومن استعبدنا هزمته الحرب

اختبرنا الحرب، ولم ننج منها، فكانت النكسة تتلو النكسة، وعلى حد تعبير نجيب سرور، الوكسة تتلو الوكسة، واختبرنا السلم ولم نفز به، فكان السلم لايعدو وضع الحرب في الثلاجة، حتى إذا ماذاب الثلج وبان المرج، فلن يعدو سلامنا سلام “الفوق” العربي، أي سلام الحكام دون مشورة المحكومين،  اما تحت هذا “الفوق” فلا سلام وقد ارخت ثقافات الحرب على رؤسنا، فلا فزنا بحرب ولا عشنا بسلام.

مع نغمة الحرب، و”كل شيء للمعركة”، لم نجهّز شيئًا للمعركة سوى الشعارات، ومن ورائها انظمة عسكرية، تشتغل على نهب شعوبها أكثر مما تشتغل على “تشحيم آلياتها”، فتحوّلت معها موارد البلاد  إلى موارد منهوبة وناهبين لايملون النهب، ولنا في مصر “صلاح سالم” وسوريا حافظ الأسد، وعراق صدّام حسين مايكفي من الامثلة.

في الحرب تنكّرت الانظمة لهزائمها، وفي السلام تنكّرت الشعوب للسلام، وكان الإنكار هو المنهج والمبدأ والسلوك، وفي الحالين، سواء الحرب او السلام، ما من معضلة تساوي معضلة إنكار الوقائع، ومن نتيجته، ونعني الإنكار مازلنا نعيش عوالم الحرب دون أن نحارب، وعوالم السلام دون أن نسالم.

في القارة الأوروبية كانت الحروب الطاحنة، حربان عالميتان ضحاياهما بالملايين، ومن بعدهما توقف الناس عن الحروب حتى نزعت المانيا سلاحها والتفت إلى الصناعات الدوائية والميكانيكية وعلوم الإنسان، ورفعت بريطانيا عن رأسها قبعة “المملكة التي لاتغيب عنها الشمس” واكتفت من تراثها بخيول تجر مركبة الملكة، وكان على فرنسا أن تتوقف عن تراث البونابرتية وبونابرت، وحين رجعت الحرب إلى أوروبا عبر الحدود الاوكرانية الروسية، ناهضت كل شعوب القارة الحرب، ويوم دخلت أنظمتها الحرب، دخلتها من الزواريب لا من الساحات خوفًا على الساحات، فاكتفت بإمداد المقاتلين بالمعونات والسلاح والعقوبات،  وما من اوروبي إلاّ ويرتجف خوفًا من ان تنتقل إلى أراضيه، ما يعني أن الناس كل الناس ، لم يعودوا من فصيلة المتحاربين، ما جعل الحرب تنحشر في جغرافية محددة لم تتخطاها ولن تتخطاها، فكانت حرب الضرورة لاحرب الهواية.

في شرقنا التعيس، تعالوا نعدد الحروب بدءًا من الحرب الإيرانية العراقية، وصولاً لحرب الصحراء الغربية، مرورًا بالحرب في لبنان وابتدأت بالحرب الأهلية وهاهي تتدحرج من لبنان إلى الجبهة الإسرائيلية، دون نسيان المفرقعات التي لاتتوقف عن سماء دمشق، وهذا كله أقل فتكًا وبشاعة ومباغتة من الحرب السورية، حيث يتناحر الجار مع الجار عبر استيلاء العسكر على السلطة تاريخيًا، ومن ثم انتقال العسكرة إلى المعارضات لاحقًا، وفي كليهما لم يكن من دافع للحرب سوى التدمير والتدمير المضاد، حتى ضاعت مسببات الحرب مع جحافل المتحاربين فضاعت معها الأهداف، وتشابهت معها الوسائل، وذهب السوريون من بعدها إلى شتات يتلوه شتات، حتى لم يعد للبلد مايقول أنها بلد، وكلا الأطراف المتحاربة يشتغل على الإنكار:

ـ نظام يتنكر لممارساته الطغيانية البشعة الممتدة إلى مايزيد عن خمسة عقود.

ومعارضات تتنكر لوقائعها وقد فعلت في عقد واحد ما فعله النظام في ماسبق له من عقود.

والدوامة باتت دائمة، والإنكار مازال يحكم الجميع، فلا مؤتمر وطني يجمع، ولا عقل يحكم من يتحكم بمسار الأمور.

الأفارقة، وتحديدًا في رواندا، شهدوا المجازر والبشاعات، حتى بلغت ضحايا حربهم مليون قتل على فترة لم تزد عن ثلاثة أشهر.

من بعدها اوقفوا مناجل الموت، واحتكموا إلى العقل، وتصالحوا دون إنكار ولا أكاذيب، وهاهي رواندا اليوم تدخل في زمن التنمية بعد زمن الدم، وعصر البحبوحة ما بعد زمن الموت جوعًا.

اليوم، شرق المتوسط على حافة الحرب، لا الإسرائيليون سيربحون من غاز ونفط متوسطهم، ولا اللبنانيون سيستعيدون مالهم الضائع مع لصوص البنوك، فالكل خاسر إذا ماكانت الحرب، وإذا لم يكن السلام رغبة، فلن يكون أقله سوى ضرورة.. ضرورة للخروج من مأزق الددمار الذي جربناه، فكان من نتائجه:

ـ من سيحررنا استعبدنا، ومن استعبدنا هزمته الحرب.

هزمته الحرب وبقي شعاره:

ـ الموت ولا المذلة.

أية مذلة تساوي تشريد الناس وتحويلهم إلى الموت في الزوارق أو الموت في بؤس الخيام؟

Exit mobile version