عبد القادر المنلا
يكاد لا يخالطنا الشك ونحن نستمع إلى أغنية الصهبجية، أنها للعملاق سيد درويش وذلك بسبب قرب أجوائها من أجواء أغانيه والتصاق عالمها بعالمه وتشابههما. غير أن البحث في حقيقة الأغنية كلمات ولحناً سيأخذنا إلى منطقة أخرى بعيدة عن سيد درويش ويوضح الخلط الحاصل والظلم الذي تعرض له صاحب الكلمات، وواضع اللحن معاً.
ولربما زاد في ذلك الخلط وأكده أداء إيمان البحر درويش للأغنية وزجها ضمن ألبوماته التي تحتوي أغاني سيد درويش دون الإشارة إلى ملحنها الحقيقي، مما دفع الجمهور للاعتقاد بل والتيقن بأن الأغنية لسيد درويش. وقبل الكشف عن اسم الملحن، دعونا نتوقف مع نقطة أخرى في هذه الأغنية الاستثنائية والتي يرددها الكثيرون -باستثناءات قليلة- دون التوقف عند كلماتها بعمق والبحث عن معانيها، فالكثيرون لا يزال يعتقدون أن الأغنية تحمل اسم “الصحبجية”، ويظنون أنها نسبة للأصحاب، وأنها تحاكي لمة الأصحاب واجتماعهم والأجواء الحميمة التي تتخلق عند اجتماعهم، وبعضهم يعرف أنها “الصهبجية” وليس الصحبجية ولكنه يفسر الكلمة بشكل بعيد عن معناها، أو يأخذه اللحن الساحر فلا يتوقف مع معنى الكلمة، رغم أن إدراك المعنى يساهم بشكل كبير في زيادة الاستمتاع بالأغنية.
تتفق كل المراجع على أن الصهبة هي لون غنائي كان يمارسه أصحاب المهن المختلفة من حدادين ونجارين وسباكين وغيرهم، حيث يجتمع هؤلاء ليلاً ليرفهوا عن أنفسهم، ويغنوا أغاني مرتجلة مرتبطة بمجال حرفهم، وقد يأخذون بعض الألحان التراثية ويغيروا كلماتها بكلمات من عندياتهم دون مراعاة الوزن الشعري أو ترابط المعاني، ولكنهم يعتمدون على “الآه والليل والعين، يالالاللي، يا عيني..الخ” لتصحيح وزن الأغنية الذي لم تسعفهم الكلمات في ضبطه بما يتناغم مع الوزن الشعري والإيقاعي. وتترادف كلمة الصهبجية مع كلمة المذهبجية، والمذهبجية هم أولئك الذين يغنون المذهب، أي بوضوح أكبر هم الكورس الذي يردد المذهب خلف المطرب. غير أن النقطة الأكثر أهمية، والتي قربت الأغنية من الجمهور هي أن الصهبجية تحيل إلى الفن الشعبي الصرف الذي يؤديه عموم الناس بصرف النظر عن ثقافتهم أو معرفتهم بفنون الغناء، فأصحاب المهن لهم الحق أيضاً بالغناء بمواهبهم الفطرية والتي لا يشترط فيها أن تكون كبيرة، إن فن الصهبجية هو فن البساطة، فن الحس الشعبي الصرف دون تعقيد أو معايير صارمة، وهو فسحة فرح وبهجة للناس العاديين الذين أنهكهم العمل طيلة النهار ووجدوا في الليل متسعاً للترويح عن أنفسهم..
ربما يرجع سبب النجاح الكبير للفنان محمود عبد العزيز في أداء الأغنية، أنها جاءت في سياقها الطبيعي، ووظفت بشكل مثالي في فيلم الكيت كات، فالشيخ حسني في هذا الفيلم، هو خير من يمثل هذه الشريحة من الناس، بالتأكيد كان محمود عبد العزيز احترافياً في الأداء الغنائي، غير أن تميزه وعبقريته في أداء الدور ذاته أعطى الأغنية مزيداً من العبألق والسحر. بالعودة إلى الكلمات والألحان، سنجد أن هذه الأغنية كانت نتاج لقاء العبقريتين صلاح جاهين وسيد مكاوي، ومن المعروف أن لقاء الاثنين أثمر عن رصيد ثمين في الأغنية الشعبية، وبشكل خاص أوبريت “الليلة الكبيرة” والذي يعد علامة فارقة في التاريخ الموسيقي والغنائي في مصر. تنتمي الصهبجية إلى زمرة الأغنية الذكية، فهي فضلاً عن جمال كلماتها وسحر لحنها، تتوفر على التقاطات في منتهى الذكاء، التقاطات تحمل إشارات اجتماعية على مستوى الطرح، وفرادة في البناء، ناهيك عن البساطة اللامحدودة والتدفق العفوي حيث لا حشو ولا إطالة ولا إقحام، ومن هنا تأتي قدرتها على جذب الجمهور من كل الأذواق والسيطرة على إحساسه بلا مقاومة. تلك إحدى التحف الحقيقية في التراث الغنائي العربي، وثمة الكثير منها، غير أن حفظ هذه التحف يحتاج إلى متحف متنقل، متحف جوال يعيد هذه الأغاني باستمرار على مسامع الأجيال، من خلال موسيقيين معاصرين يعون جيداً قيمة رصيد بلدهم الفني وضرورة الحفاظ عليه..