fbpx

نبّاشو القبور ورحلة آثار إدلب.. "داعش" و "النصرة"، من نهب المتاحف إلى خفايا البحث والتنقيب.. بوبات تركيا مفتوحة

من نهب المتاحف إلى خفايا البحث والتنقيب؛ أسواق للبيع والأتراك يرحبون. 16000 رقيم معماري من إيبلا إضافة إلى عشرات اللقى المهمة اختفت قبيل عام 2015. من تجاوزات فردية، إلى عصابات منظمة تعرف الطريق إلى خارج الحدود. تحتوي على: مدخل

  • المحافظة ذات المخزون التاريخي الأكبر.
  • متحف معرة النعمان ما يزال يحتوي على قسم من محتوياته ومتحف إدلب عاد إلى العمل.
  • مركز حماية التراث مجهود جماعي من متطوعين لحماية ما تبقى.
  • مواقع مدمرة على الرغم من أهميتها.
  • غياب القانون شجع كثيرين.
  • من تجاوزات فردية بدائية إلى مجموعات منظمة.
  • خفايا البحث والتنقيب.
  • طريق البيع وثلاث أسواق رئيسة للبيع في الداخل.
  • التهريب إلى تركيا.
  • التزوير.
  • الخلاصة

مدخل تحتوي محافظة إدلب على مخزون ضخم من الآثار والأوابد التاريخية القديمة، وتعد هذه المحافظة ذات المخزون الأكبر في سوريا، إذ صنفت في عدد من الإحصاءات الرسمية وغيرها بوصفها تمتلك ثلث مخزون سوريا من المواقع واللقى الأثرية بحيث لا تخلو بقعة أو قرية من موقع أثري على امتداد رقعة المحافظة فتنتشر المواقع الحيثية والفينيقية والبيزنطية والرومانية مروراً بالعهود الإسلامية المختلفة حتى أن بعض المواقع تعود إلى زمن الإسكندر المقدوني وغيره من الأمم الغابرة. تعرضت الآثار في المحافظة لعدد من عمليات النهب في ما مضى من قبل عصابات متخصصة مرتبطة بالنظام وبعض المجموعات التي كانت تعمل سراً، لأن القانون السوري كان يمنع بشكل قاطع أي عملية بيع أو نقل أو تنقيب وعلى الرغم من عمليات النهب كلها التي جرت سابقاً إلا أن كثيراً من اللقى المكتشفة من قبل بعثات التنقيب النظامية كانت ما تزال محفوظة في كل من متحفي معرة النعمان ومدينة إدلب حتى بداية الانتفاضة السورية، إذ انتقلت الآثار في المحافظة إلى عهد جديد تجلى السرقة والبيع والإتجار والتخريب فتعرضت المتاحف للنهب من قبل أطراف عدة، وانتشرت عمليات التنقيب العشوائية بكثافة مهددة المخزون الحضاري المكتشف وغير المكتشف وبخاصة بعد أن تحولت عمليات التنقيب من الأفراد إلى المجموعات المنظمة التي يديرها أشخاص مرتبطون بجماعات مسلحة منها داعش والنصرة وافتتحت بازارات للقى الأثرية عبر الانترنت وغيره وهربت كثيراً من اللقى والقطع النادرة عبر الحدود التركية بالتعاون مع وسطاء في تركيا إلى خارج البلاد. سنغوص في هذه المادة داخل أسواق اللقى الأثرية وبين كواليس التنقيب وسنكشف وبشكل جزئي الستار عن أهم الطرق المتبعة للتنقيب والبيع والتهريب إلى الخارج.

  • المحافظة ذات المخزون التاريخي الأكبر.

تنتشر المواقع الأثرية بشكل كثيف في المحافظة ومحيطها ولا شك في أن الجميع سمع ببعض المواقع كالبارة وقلعة المضيق وإيبلا وتل مرديخ وغيرها، إذ تعد المنطقة من أقدم المناطق التي سكنها الإنسان على مر التاريخ. قابلنا الأستاذ (ح) خريج كلية التاريخ ومهتم بالمواقع واللقى الأثرية في المنطقة فشرح عن المواقع الأثرية (في إدلب عاشت عدداً من الحضارات بدءاً بالإنسان القديم الذي ترك حفريات ومعالم قديمة عدة إلى العهود الحيثية القديمة وعهد الإسكندر كما في قلعة المضيق وإيبلا وصولاً إلى العهود الرومانية والبيزنطية كما في البارة وسيرجيلا وجبل الزاوية وجبل باريشا وصولاً إلى العهود الإسلامية والعثمانية كما في معرة النعمان وكثير من المواقع الأخرى). الباحث التاريخي (ن. ق) الحاصل على الماجستير في علوم الآثار وعضو مركز حماية التراث الثقافي قال موضحاً ومفصلاً عن أهم المواقع الأثرية في المحافظة: توجد في جنوب محافظة إدلب مجموعة كبيرة جداً من المواقع خصوصاً في جبل الزاوية وأهمها موقع كفر البارا الذي يقع جنوب إدلب بنجو 33 كم ويحوي على قصور ومدافن وحمامات وأديرة ويعود إلى القرن الثاني الميلادي، وموقع قرية سيرجلا الأثرية التي تقع شرق كفر البارة وهي تصوير حي للقرى السورية في المرحلتين البيزنطية والرومانية، اكتشف فيها عدد من النقوش والكتابات الرومانية والعربية وما تزال أبنيتها محافظة على قوامها، نزح إليها بعض السكان وأعادوا تهيئتها وسكنها هرباً من القصف، وقرية شنشراح التي تقع بالقرب من سرجلا وكفر البارة وغيرها من القرى الأثرية التي تشكل في ما بينها قرية أثرية كبيرة بقطر 3 كم وتعود مبانيها إلى القرن الرابع الميلادي. وشمال محافظة إدلب يوجد عدد من المواقع أهمها موقع الجبل الأعلى ويقع تقريباً على بعد 35 كم شمال غرب إدلب، ويتألف من مواقع عدة وهي (دللوزة، كفير، قرقبيزة) ويحوي الموقع على كنيسة قلب لوزة، بني الموقع بين القرنين الخامس والسادس الميلادي. وأما غرب إدلب فهنالك جبل الوسطاني الذي يحوي على أكثر من 75 قرية قديمة، تعود المواقع إلى المرحلتين البيزنطية والرومانية وتحتوي على المباني والكنائس والأديرة والمعاصر وأهم المواقع الأثرية فيه بنصرة وكفر تعقاب والفاسوق. إلى الشمال من الوسطاني يقع جبل باريشا: يتألف من مواقع عدة؛ (دير قيتا وخربة الخطيب ودورينة وبقيرحا)، تحوي دير قيتا ثلاث كنائس تعود إلى القرن السادس الميلادي ويوجد برج شمال القرية ما زال إلى اليوم محافظاً على ارتفاعه كاملاً أما بقيرحا فتعود إلى ما بين القرنين الثاني والسادس وفيها معبد روماني كبير يعود إلى القرن الثاني الميلادي، تقع خربة الخطيب بالقرب من الحدود التركية تماماً وفيها معبد وثني يسيطر على المشهد وتعود بعض أبنيتها إلى القرن الخامس الميلادي. في أقصى شمال المحافظة هنالك جبل سمعان وفيه كفر شمس وبرج حيدر وبراد وقلعة سمعان وجميعها مواقع مهمة جداً. أما في شرق المحافظة فيوجد موقع إيبلا، يعدّ تل مرديخ الأثري من أهم المواقع ويقع شرق إدلب بنحو 40 كم، نعود حضارته إلى أقدم العصور بدءاً من فجر التاريخ حتى العصر البرونزي والحديدي فالفارسي والهلنستي والروماني البيزنطي، عثر فيه على عدد من اللقى تعود أقدمها إلى الألف الثالث قبل الميلاد، في معرة النعمان توجد قلعة المعرة والجامع الكبير وخان مراد باشا وبالقرب منها تقع الدانا الجنوبية وهي موقع أثري يعود إلى العصر البيزنطي ويحوي عدداً من القصور والكنائس، إضافة إلى تلك المواقع هنالك عشرات التلال والمواقع الأثرية الصغيرة المنتشرة هنا وهنالك التي ما زلت مجهولة تماماً ولم يذكرها أي كتاب أو باحث قط

  • متحف معرة النعمان ما يزال يحوي قسماً من محتوياته ومتحف إدلب عاد إلى العمل

يوجد في محافظة إدلب متحفان فقط وهما متحف المعرة ومتحف إدلب المركزي، إذ كان المتحفان من أهم متاحف سوريا والشرق الأوسط وذلك لما فيهما من لقى أثرية مهمة، يضيف الباحث الأثري (ن.ق): (أعمل في متحف معرة النعمان مع مركز حماية التراث الثقافي وهذا المركز هو المسؤول المباشر عن المتحف منذ أن حُررت معرة النعمان في 2012، حافظنا على أغلب محتوياته التي كانت موجودة فيه سابقاً، وأهم ما يميز هذا المتحف وجود لوحات الفسيفساء وهو أكبر متحف للفسيفساء في الشرق الأوسط إذ يحوي المتحف 2000 متر مكعب من الفسيفساء وهي موجودة حتى اليوم داخل المتحف، نفذ مركز حماية التراث الثقافي في 2014 مشروعاً لحماية لوحات الفسيفساء؛ إذ جرت تغطيتها بشكل كامل بهدف حماية اللوحات من القصف والاشتباكات وعلى الرغم من تعرض المتحف للقصف من قبل قوات النظام ثلاث مرات إلا أن اللوحات ما تزال بحالة جيدة، لكن القطع الذهبية والفضية نقلتها قوات النظام في بداية الانتفاضة إلى متحف إدلب المركزي). عن متحف إدلب المركزي حدثنا الأستاذ (ح) فقال: (كان متحف إدلب يعدّ متحفاً شاملاً يحوي عدداً من المعروضات وأهمها معروضات موقع إيبلا المغرقة في القدم، كان يحوي في مستودعاته حوالى 16000 رقيم معماري من إيبلا، إضافة إلى عشرات اللقى المهمة من مواقع أخرى ولم يعرف بالتحديد مصير تلك اللقى إلا أن كثيرين قالوا إن قوات النظام نقلتها إلى دمشق واللاذقية قبيل خسارتها لإدلب في 2015). أضاف الأستاذ (ح) حول إعادة افتتاح متحف مدينة إدلب: (افتتح متحف إدلب من جديد عبر مديرية الثقافة التابعة لحكومة الإنقاذ التي تستولي على إدلب بدعم من هيئة تحرير الشام، وقد سمح للعامة بزيارته لكنه مع الأسف لا يحتوي اليوم سوى على بعض لوحات الفسيفساء وبعض الفخاريات عديمة القيمة ويبقى السؤال الأهم للمتحكمين بوضع إدلب عن مصير كمية كبيرة من اللقى المهمة التي تمثل تاريخ المنطقة).

  • مركز حماية التراث؛ مجهود تطوعي جماعي لحماية ما تبقى

أسس مركز حماية التراث الثقافي في منطقة إدلب مع بداية سيطرة المعارضة على المنطقة وقد حمل المركز على عاتقه حماية ما تبقى من مواقع ولقى ومتاحف وتوثيق الانتهاكات بحق تلك المواقع، يوضح الباحث التاريخي (ن.ق): (لا يقتصر عمل المركز على متحف معرة النعمان فنحن أيضاً نقوم بشكل دوري بتوثيق أحوال التلال والمباني والمواقع الأثرية ومتابعتها في إدلب كلها، ويجري ذلك شهرياً، ونقوم أيضا باستمرار بمشروعات إسعافية هدفها ترميم المواقع التي تتعرض لخطر القصف أو التدمير وحمايتها، ونقيم في المركز -بالتنسيق مع المجالس المحلية باستمرار- ندوات ومحاضرات هدفها توعية المجتمع بأهمية هذه المواقع وضرورة حماية ما تبقى منها، القوانين المجحفة التي كانت تطبق في أيام النظام انقلبت عكسياً على المواقع الأثرية وأودت بكثير منها بسبب تجاوزات السكان المحليين. نحن في المركز نسعى بجهد لحماية ما تبقى وبخاصة أن النظام قد استولى على كثير من القطع المهمة قبل خروجه من المنطقة، وأيضاً نقوم بتوثيق الانتهاكات التي تجري ضمن المواقع الأثرية وبالأخص التجاوزات والحفر العشوائي وقصف قوات النظام).

  • مواقع مدمرة على الرغم من أهميتها

مع بدء الانتفاضة السورية تعرض عدد من المواقع الأثرية في المنطقة للتدمير الجزئي أو الكلي أو الحفر والتجاوزات، ويمكن تصنيف ما تعرضت له المواقع في ثلاثة أشكال؛ أولها القصف الجوي والمدفعي من قبل قوات النظام وثانيها الحفر العشوائي والتنقيب اللاشرعي من قبل صيادي الكنوز وثالثها تكسير الحجارة لاستخدامها في البناء أو استثمار أراضي المواقع سواء للزراعة أم البناء السكني. الباحث الأثري (ن.ق) أطلعنا على بعض ما تعرض له عدد من المواقع (موقع كفر البارة تعرض كثير من مبانيه للدمار بفعل القصف الجوي من قبل الطيران السوري والروسي وبفعل تكسير الحجارة للبناء أو أعمال الحفر العشوائية بحثاً عن كنوز. أما شنشراح تعرضت لكثير من الأضرار إذ استهدفها قصف الطيران في 6 يونيو/ حزيران 2015، وتعرضت بعض المباني للضرر بسبب قيام الأهالي باستصلاح الأراضي للزراعة ووثق فيها عدد من حالات الحفر العشوائي بحثاً عن كنوز. وفي موقع الكفير انتشرت عمليات التنقيب العشوائية وتعرضت إحدى غرف الكنيسة في الموقع لضرر كبير نتيجة اكتشاف قبر تحت الكنيسة من قبل صيادي الكنوز بعد تكسير بلاط الكنيسة. أما الفاسوق في جبل الوسطاني فقد تعرض لعدد من عمليات الحفر العشوائية إضافة إلى تكسير الحجارة لاستخدامها في البناء، إذ تداخلت الأبنية السكنية مع المباني الأثرية هنالك. في جبل باريشا تعرضت المواقع لتكسير حجارتها للبناء ووثقت عدد من حالات التنقيب غير الشرعي. كذلك تعرض موقع تل مرديخ لعشرات الغارات الجوية ما أدى إلى تدمير أجزاء كبيرة منه وجرى فيه عدد من عمليات الحفر والتنقيب غير الشرعية، ذلك كله أدى إلى تغيير شكله الذي كان سابقاً). كان ذلك في ما يتعلق بالمواقع الأثرية المهمة أو الموثقة أما بالنسبة إلى التلال والمواقع الصغيرة فيؤكد الأستاذ (ح) (لم يسلم أي موقع أثري كبيراً كان أم صغيراً من التجاوزات، فالتلال والمواقع جميعها تعرضت لأعمال حفر وتنقيب، وغيرها بات مواقع سكنية بعد أن نُبشت وأخرى تحولت إلى مكبات قمامة، صيادو الكنوز منتشرون في كل مكان بحثاً عن لقى قديمة، شجعهم على ذلك الكم الهائل من الأموال التي يمكن الحصول عليها والفلتان الأمني وعدم وجود ضوابط، إضافة إلى انتشار الأسواق والسماسرة وتوفر طريق تهريب جيدة إلى تركيا).

  • الفلتان وغياب القانون شجع كثيرين

أبو جميل من المنقبين عن الآثار بطريقة غير شرعية منذ عشرات السنين يصف الوضع قبل الانتفاضة السورية بقوله: (في الماضي حين كان النظام السوري يسيطر على المنطقة كنا نخرج سراً للحفر من دون أن يدري أحد، لقد كانت العقوبات صارمة جداً وتعرضت للسجن مدة سنتين بسبب ضبطي أثناء الحفر، ولوحقت أمنياً في نهاية المطاف)، ويضيف أبو علاء أحد كبار زعماء عملية الحفر في ريف إدلب الجنوبي وصاحب الخبرة الأوسع بين (الحفيرة): (في ما مضى كان الحفر صعباً جداً كنا نستخدم طرائق بدائية جداً وفي مواقع محدودة وغالباً ما يجري الحفر ليلاً، أظن أن التشديد على الحفر لم يكن كما يظن بعضهم بسبب حماية الآثار، إنما كان التشديد كله فقط لكي يقوم آل الأسد وبعض المنتفعين بسرقة اللقى الأثرية لأنفسهم). كان أبو محمد يعمل حارساً لأحد المواقع الأثرية شرق إدلب وصف الحال سابقاً بقوله: (كان التشديد قوياً للغاية من قبل الجهات المختصة ولم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب من المواقع الضخمة وعمليات التنقيب غير الشرعية كانت تجري في المواقع والتلال الصغيرة المتناثرة على طول رقعة المحافظة). لاحقاً ومع قيام الانتفاضة السورية وخروج المنطقة على سلطة النظام ساعدت أجواء الانفلات الأمني المهتمين بموضوع التنقيب وزاد نشاط التجارة والبيع وبخاصة أن بعض المتنفذين في بعض الفصائل هم من يشرفون على عمليات التنقيب والحفر. يضيف أبو جميل (خروج المنطقة من سلطة النظام شجع كثيرين على البحث عن الآثار في المواقع كلها ومكن كثيرين من الوصول إلى المواقع الضخمة، وخرجت كثير من اللقى النادرة وبيعت وأغلبها بيع خارج سوريا بسبب سهولة البيع والتسويق بعد انتشار النت والصفحات المتخصصة بالمبيع والشراء من دون وجود رقيب). ويوافق أبو علاء أبا جميل فيضيف (مع خروج المنطقة من سلطة النظام وانتشار بعض التنظيمات المتشددة في المنطقة كداعش وغيرها اتخذت هذه التنظيمات من الإتجار بالآثار مورداً ماليا لها إذ تدر عليهم هذه التجارة الموارد الضخمة التي تؤمن استمرار عملهم، وقد سهل عملهم وجود بعض الأشخاص الأجانب في هذه التنظيمات فعملوا بدورهم على عملية الترويج للقطع الأثرية).

  • من تجاوزات فردية بدائية إلى مجموعات منظمة

في بداية الأمر ومع انتشار الفلتان الأمني وغياب المراقبة الحقيقية اندفع كثيرون للتنقيب بحثاً عن كنوز وفقاً لنشاط فردي أو مجموعات بدائية صغيرة من دون وجود تقنيات عالية أو خطط وخرائط، يقول أبو جميل (أعمل في التنقيب أنا ومجموعة صغيرة من أصدقائي، نبحث عن طريق التوقع أو المظهر الخارجي للأرض أو استخدام بعض الوسائل البدائية وغالباً يكون الحفر عن طريق أدوات ومعاول بسيطة، ليس لدينا إمكانات ضخمة للعمل، ومراقبة الفصائل وخصوصاً تحرير الشام تمنعنا من العمل بشكل موسع، أظن انهم يحتكرون العمل الضخم لأنفسهم). أما محمود وهو مواطن عادي يقطن بالقرب من أحد المواقع الأثرية القديمة فتحدث لنا: (في البداية كان يرتاد المكان بعض الأشخاص قليلي الخيرة مع وسائل حفر عادية وأظنهم لم يجدوا شيئاً، لكن لاحقاً بدأت تصل إلى المنطقة مجموعات مسلحة مع معدات حفر متطورة من كمبريسور إلى تركسات وحفارات ضخمة، لقد قلبوا التل تماماً رأسا على عقب). وعن التجاوزات يضيف الأستاذ (ح): (بعض الأشخاص يقومون بتنقيبات عشوائية فردية لا خلاف أن لتلك التنقيبات أضرارها، لكنها لا تقارن بالتنقيبات التي تقوم بشكل منظم وبوسائل حفر متطورة، بكل تأكيد لا يمكن لأحد القيام بذلك إلا إذا كان من الفصائل المتحكمة والمسيطرة على الموقع).

  • خفايا البحث والتنقيب

في ريف إدلب الجنوبي حيث تنتشر كثير من المواقع الأثرية المهمة التي جرى اكتشافها وتنتشر عشرات المواقع التي ما زالت مدفونة تحت الأرض؛ اشترى (غ) أبو محمود -وهو قيادي سابق متوسط المستوى في جبهة النصرة- حفارة (باكر) ذات استطاعة كبيرة، لكن غيث لا يعمل في حفر الخزانات أو الزراعة أو المقالع وحتى أنه لا يعمل بحفارته الجديدة بالأجرة، إنه يقوم بالتنقيب هذا ما أخبرنا به (م.م) أحد سكان قريته وقد عمل معه مدة وجيزة. ويضيف (م.م): ((غ) أو أبو الدرداء كما كان يطلق عليه عندما كان أميراً في النصرة امتهن عملية التنقيب، وهو يملك إضافة إلى الحفارة مجموعتين من الأجهزة المتطورة لكشف المعادن والفراغ تحت الأرض، اشتراها عبر التهريب من تركيا، يعمل مع غيث حوالى 20 عاملاً أغلبهم عناصر من هيئة تحرير الشام وقد قاموا معاً بالتنقيب في عدد من المواقع مستفيدين من سطوتهم وعلاقاتهم الجيدة داخل هيئة تحرير الشام). ويقول (م.م): (إضافة إلى العمل في الحفر فهم أيضاً يعملون أعين وجواسيس لهيئة تحرير الشام فحال اكتشافهم أي شخص يقوم بالتنقيب يخبرون أمنية الهيئة التي توقفه وتعتقله ولا تخرجه قبل التأكد من أنه لم يجد شيئاً أو تحاصصه على ما وجد). طلبنا من (م.م) أن يخبرنا أكثر عن منقبين آخرين يعملون ضمن مجموعات لكنه رفض وقال (على الرغم من كل ما يجنيه غيث من عمله إلا أنه فقير الحال نسبياً؛ أغلب هذه الأموال التي يجنيها تذهب إلى خزائن الهيئة لدعم نشاطها). في الشمال من محافظة إدلب قرب الحدود السورية التركية في قرية بوزغار تنتشر كثير من المواقع الأثرية يقول ع. د أحد سكان القرية واصفاً لنا ما جرى لأحد المواقع الأثرية هناك: (إحدى الفصائل العسكرية اختارت إحدى التلال لتكون مقراً لها لكن لماذا اختاروا هذا المكان من دون غيره؟ بالتأكيد لأنه تل أثري، الحفر في هذه التلة لم يتوقف يوماً، كثير من القطع الأثرية خرجت من هنا وبيعت خارج سوريا عبر تركيا). حاولنا مراراً معرفة المسؤول عن حفر الموقع الأثري لكن لم نتمكن من التأكد، كثيرون قالوا إن الآليات والمقر تعود إلى قيادي سابق في النصرة يدعى أبو عبد الله، وقد كان يشغل منصب أمير عسكري سابقاً وهو من يقوم بالتنقيب في عدد من المواقع في منطقة الحدود. كثير من المجموعات الأخرى تنشط وتعمل بشكل منظم في منطقة شرق أتوستراد دمشق – حلب وأغلبها مرتبط بحراس الدين أو فصائل أخرى، تلال أثرية ضخمة في إيبلا وتل الطوقان وتلمنس وغيرها جرى حفرها من قبل بعض المجموعات التي كانت ترتبط بداعش سابقاً قبل أن تُطرد تلك المجموعات من المنطقة عام 2013، إذ غدت المنطقة كاملة تحت سيطرة الجيش الحر وهيئة تحرير الشام. أبو عبدو وجد قطعة أثرية قيمة وعرضها للبيع على أشخاص عدة، ليبيعها أخيرا لمجموعة باسم لواء الأمة كانت مرتبطة بداعش، هذه المجموعة هي أكثر من قام بعمليات الحفر والتنقيب شرق الأتوستراد، وكانت مجموعات الحفر والتنقيب بقيادة شخص يسمى الدكتور، غادرت المجموعة المنطقة لاحقاً بحسب أبي عبدو تجاه مواقع سيطرة داعش ولم يبقَ في المنطقة إلا الدكتور الذي ما يزال يعمل ومجموعاته بالتنقيب في المنطقة حتى اليوم بالتنسيق مع قاطع البادية في تحرير الشام.

  • الدكتور شيخ كار المنقبين والتجار

يقول أبو عبده (الدكتور كما هو متعارف عليه بين مجموعات المنقبين والعاملين معه كان في ما مضى يدرس الطب في بريطانيا ومع بداية الانتفاضة السورية عاد إلى تركيا حيث استقر مدّة هنالك وعمل في السمسرة وشراء الآثار المهربة من سوريا إلى تركيا، انتقل لاحقاً إلى إدلب ليقوم بالعمل على التنقيب مستفيداً من خبرات ربما قد اكتسبها في بريطانيا أو من أصدقاء له في أوروبا، ويدير أحد أكبر أسواق شراء التحف الأثرية في الشمال السوري). علمنا أن الدكتور ينحدر من قرية معر شمارين شرق معرة النعمان، ذهبنا إلى المنطقة محاولين التعرف إليه عن قرب لكننا لم نتمكن من ذلك فهو يعيش ضمن ترتيبات أمنية مشددة، علمنا من بعض السكان المحليين أن اسمه (خ.ر) وهو يمثل شيخ الكار بالنسبة إلى المنقبين والتجار كلهم، ولا يمكن لقطعة أثرية أن تباع إلا بعلمه وبحكم خبرته الواسعة في مجال التنقيب وعلاقاته القوية مع شخصيات أوروبية فإن الجميع يعرض عليه القطع وهو يقوم بتقويمها وغالباً بشرائها. علمنا أيضا أن (خ.ر) كان مقيماً في بريطانيا قبل الانتفاضة السورية وأنه قد حصل على الجنسية البريطانية، مع بداية الانتفاضة انتقل إلى تركيا وعمل في السمسرة والتجارة بشراكة مع شبكات تركية للتهريب وتجارة الآثار هنالك، كان يستقبل القطع المهربة من سوريا إلى تركيا ثم يبيعها لتجار أتراك أو أوروبيين هناك. وبحسب شهادات بعض أبناء منطقته الذين يعرفونه جيداً فإنه دخل إلى سوريا في 2012 وعمل في قيادة جيش الأمة وهو فصيل مرتبط بداعش، إذ عمل الدكتور (خ.ر) على تأسيس ورشات ضخمة للحفر والتنقيب وبعد طرد داعش من المنطقة بقي الدكتور (خ.ر) ليعمل تحت جناح هيئة تحرير الشام سراً وهو اليوم المدير الحقيقي لأغلب عمليات التنقيب والتجارة المنظمة عبر ورشاته وشبكة علاقاته القوية في تركيا.

  • طريق البيع وثلاثة أسواق رئيسة للبيع في الداخل

أبو جميل منقب الآثار تحدث لنا عن إحدى طرق البيع المتبعة من قبل المنقبين فقال: (أكثر وسيلة مستخدمة في المناطق المحررة من قبل المبتدئين في الحفر والتنقيب لترويج ما يجدونه من لقى هي مجموعات على شبكات التواصل يجتمع فيها التجار والسماسرة والمنقبون والمهتمون، يجري تداول القطع والخبرات عبر هذه المجموعات لكن هذه الطريقة غير مرغوبة لدى كثيرين إذ إنها قد تفقد القطعة هيبتها وقيمتها وتخفض كثيراً من سعرها لذلك الطريقة الفضلى هي عرض القطعة على تجار مباشرة، هنالك ثلاثة أسواق رئيسة في المنطقة وهي سوق تلمنس وسوق حيش وسوق سرمدا). لسبر أعماق تلك الأسواق الثلاثة حصلنا على صورة لإحدى القطع الأثرية التي وُجدت في أحد القبور القديمة في ريف إدلب بوساطة أحد صيادي الكنوز وقمنا بعرضها للبيع على إحدى مجموعات شبكات التواصل الاجتماعي، وعند بعض التجار الصغار، وبعد أيام عدة فاوضنا أبو علاء -وهو من كبار المنقبين في ريف إدلب الجنوبي- من أجل شراء القطعة، بعد مناقشة طويلة معه طلب أن تكون هناك وساطة بيننا وبينه من اجل إتمام عملية المفاوضات وكان ذلك. الشخص الذي دخل بيننا وسيطاً أخبرنا أن أبا علاء ولديه شريك اسمه أحمد يديرون سوق حيش للقطع الأثرية في ريف إدلب، يقدمون على شراء أغلب القطع التي تستخرج من المنطقة، وأخبرنا أيضاً بعد مدة أن أبا علاء يشك في أن القطعة مزورة لذلك عليه عرضها على الدكتور الذي يدير سوق تلمنس. تكشفت الأوراق قليلا فسوق حيش في ما يبدو مرتبط أيضاً بالدكتور مدير سوق تلمنس، وهنا سألنا في تلمنس عن الدكتور ليتبين أنه المدير الرئيس لعمليات الشراء في شرق إدلب وجنوبها، وهو ذو خبرة كبيرة جداً في الفحص واكتشاف ما هو مزور أو حقيقي، ولديه شبكة كبيرة من المتعاملين والتجار الصغار الذين يعمدون إلى التعامل مع المنقبين وعارضي القطع ويدخلون وسيطاً بينه وبين كل صاحب قطعة خلال عملية الشراء، وبذلك يتمكن من شراء كل قطعة يمكن أن تعرض في تلك المناطق. أما بالنسبة إلى سوق سرمدا فهو سوق ضخم أيضا ويجري بيع كثير من القطع من خلاله، فبحسب (ع.د) أحد سكان قرية بوزغار القريبة من سرمدا والحدود التركية فإن تجار سوق سرمدا هم الأقوى في شراء القطع لأنهم يعملون بالقرب من الحدود، ما يسهل عليهم تهريب أغلب القطع إلى تركيا عبر عمليات التهريب أو حتى عبر معبر باب الهوى). كثير من السماسرة الأتراك والأجانب قدموا إلى المنطقة أيضاً لشراء القطع الأثرية وأغلبهم كان يتخفى بصفة مهاجر جاء للقتال في سوريا، لكن الحقيقة أنهم جاؤوا بقصد شراء قطع أثرية ونقلها إلى خارج سوريا عن طريق تركيا.

  • التهريب إلى تركيا.

لا تمتلك القطع الأثرية أي قيمة مادية من دون زبائن يرغبون في شرائها أو اقتنائها، كثيرون في الداخل السوري -بحسب أغلب من قابلناهم- ليس لديهم رغبة في امتلاك تلك القطع، وأغلب الراغبين في امتلاكها هم سماسرة وشبكات لتجارة الآثار في تركيا. لذلك نشطت حركة كبيرة لتهريب القطع الأثرية في منطقة الحدود، تحدثنا إلى رامي وهو مهرب قديم يعمل ومجموعته بالقرب من دركوش. أكد رامي أن كثيرون من المهربين يشاركون في عمليات تهريب الآثار إلى تركيا مقابل مبالغ مالية جيدة يمكن أن تصل إلى 50 ألف دولار للقطعة وذلك بحسب أهميتها. وأكد أنه في كثير من الأحيان تجري رشوة الجندرما التركية من أجل غض الطرف عن تهريب متل هذه القطع لكنه أكد أيضاً أن كثيرين من التجار لا يرغبون في تهريب قطعهم بهذه الطريقة لأنها غير آمنة بشكل كبير. سألنا عن طرق أخرى أكثر أمناً لتهريب القطع إلى تركيا، كثير من الأشخاص المهتمين بهذا الموضوع قالوا لنا إن معبر باب الهوى هو المكان الأكثر أمناً لتهريب القطع الثمينة، إذ يتولى ملف تهريب القطع الأثرية هنالك شخص مقرب من أحد قياديي أحرار الشام سابقاً، فجميع القطع تخرج من المعبر بإشرافه مقابل أموال طائلة يتلقاها، وعلى الرغم من سيطرة تحرير الشام على المعبر بعد معارك مع أحرار الشام بقي هذا الشخص في منصبه بسبب ارتباطه المباشر مع مسؤولين أتراك يتحاصصون معه عائدات تهريب القطع الأثرية.

  • التزوير

في ما كله سبق كنا نتابع ونناقش ونتحدث عن المواقع واللقى الحقيقية ولكن ماذا عن التزوير؟ سؤالنا هذا وجهناه إلى أشخاص عدة من ذوي الخبرة في هذا المجال كان منهم (ص.ف) وهو تاجر آثار قديم يعمل في التنقيب والبيع منذ عشرين سنة، وقد تعرض للسجن من قبل النظام السوري مدة خمسة أعوام نتيجة بيعه قطعة أثرية مزورة على شكل تابوت من المرمر، يقول (ص.ف): (التزوير موجود حتى منذ أيام النظام السوري واليوم هو موجود بشكل أكبر، العملية سهلة وتختلف طرق تحضيرها بحسب القطعة ومادة صنعها إذ من الممكن تزوير لوحات الفسيفساء أو التماثيل الحجرية والمعدنية وغيرها). وعن الطريقة التي يجري من خلالها التزوير يقول (ص.ف): (الأمر بسيط؛ عليك أن تكون صاحب خبرة في أنواع اللقى الأثرية بحيث تصنع نموذجاً لقطعة ما قريبة إلى تصميم إحدى الحقبات الزمنية التي مرت على المنطقة، ثم أنت بحاجة إلى شخص ذي موهبة فنية بداية ليقوم بصناعة القطعة الأثرية أو نحتها، من ثم تقوم بغلي القطعة في الماء مع كمية من تراب موقع أثري قديم، ويفضل تراب القبور وذلك كي تأخذ القطعة طبقة كلسية تكسبها لوناً وكأنها قديمة، إضافة إلى ترك رواسب على القطعة من تراب القبور القديمة بحيث لا يجري كشفها إذا ما تعرضت إلى فحص مخبري، وهذه الطريقة هي الأكثر استخداماً في تزوير الآثار). يقول أبو جميل منقب الآثار: (أكثر منطقة تجري فيها صناعة قطع أثرية مزورة هي ريفي إدلب الجنوبي والشرقي، إذ أنشئت هناك ورشات كبيرة أشبه بمعامل لتزوير القطع الأثرية). لكن الأستاذ (ح) المهتم بقضايا الآثار خالف الجميع وقال: (أظن أن عملية التزوير انخفضت إلى حد كبير بسبب حصول كثيرين على خبرة عالية لكشف القطع المزورة من جهة، وانتشار حرية أكبر في عملية المفاوضة والبيع والفحص بسبب عدم وجود رقابة أمنية على هذا الموضوع، ما يتيح الفرصة للمشتري للتأكد من القطعة بسهولة).

  • الخلاصة

تعرض المخزون الحضاري والثقافي الموجود في إدلب خلال سنوات الانتفاضة السورية إلى كم كبير من عمليات التدمير بفعل القصف وتجاوزات السكان المحليين وعلى الرغم من الجهد المبذول من بعض الجهات لحماية ما تبقى من لقى أثرية في المتاحف أو المواقع الأثرية إلا أن حالة الفلتان الأمني لا تنبئ أبداً بأن مستقبل هذه الآثار سيبقى بخير، وبخاصة أن عمليات التنقيب من قبل الباحثين عن كنوز في تطور وانتشار مستمر وذلك بسبب ارتباط عدد من العمليات المنظمة بأشخاص ذوي سلطة واسعة في بعض الفصائل المسيطرة على المنطقة، واستمرار عمليات التهريب إلى تركيا والتجارة المنظمة سيقضي بشكل كامل على هذا المخزون الموجود في المحافظة. شبكات تنقيب وإتجار عدة تعرفنا إليها، لكن ما خفي أعظم فالمراقب على الأرض يمكنه أن يكتشف مدى انتشار التنقيب العشوائي، ذلك أن الحفريات قد انتشرت في المواقع كلها، وكثير من المواقع قد تغير شكلها بشكل كامل نتيجة الحفر بالآليات الثقيلة وتكسير الحجارة ونقلها وفلاحة أرض المواقع أو استخدامها للسكن.

[smartslider3 slider=10]

مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى