تاريخ العراق قام على صيغة صراع: سلطة / مجتمع، وتاريخ العراق يشهد بدموية هذا الصراع.
وتاريخ مصر قام على حوار: سلطة / مجتمع، وعبر تاريخ الدولة في مصر لم تستطع أن تلوي عنق المجتمع بتعبيراته، وهي تعبيرات تمتد من حضور رقّاصة إلى نضال نقابة، إلى حزب سياسي وبرلمان مهما انخفض أداءة لايقل شأنه.
أما سوريا، فهي المصابة بمرض اسمه: دمج المجتمع بالسلطة، بما يغيّب الثاني لحساب الأول، فالقاعدة كانت :”أمطري حيث شئت فخراجك لي”، فالسلطة هي المالك والحاكم، وهذا السياق التاريخي، هو ما سمح لحافظ الأسد بإطلاق تسمية (سوريا الأسد) على الدولة، ومن ثم جاء وريثه ليتابع إرث والده، ويطوّر شعار الوالد نحو :” الأسد أو نحرق البلد”.
وما أن جاءت الثورة، إلاّ وابتدأ المجتمع يتلمس شروطه، اكثر من ذلك ينادي بهويته، وأكثر من ذلك يخوض معركته من أجل أن يكون خارج برواظ السلطة لتكون له صورته المستقلة عن صورة السلطة.
بداية لم تستوعب السلطة إمكانية أن ينتقل المجتمع هذا الانتقال، كما لم تستوعب ولو للحظة واحدة إمكانية أن تتنازل عن استحواذها على البلاد، حتى ولو على مستوى إصلاحات بسيطة قد لاتتجاوز نقل محافظ درعا الجلاّد عاطف نجيب، أو إزاحته عن كرسيه، طبعًا دون الوصول إلى الحد الأعلى ونعني محاكمته على جرائم حقيقية ارتكبها، ولهذا اندفعت بالحديد والنار لمواجهة تظاهرة سلمية، أو جملة مكتوبة بالدهان على جدار من جدران المدينة، فاختطت منذ اللحظات الأولى سيناريو يقوم على ما يلي:
ـ القمع بلا رحمة.
ـ التشكيك بهوية المجتمع الذي يعني الهوية السورية.
بناء على هاتين القاعدتين، اشتغلت منظومتها الاستخبارية على استحضار الغائب من الحياة السورية، وهو الطائفية السياسية، بما جعل الأقليات مرعوبة من أي تحوّل مقبل وذلك بعد أن أعمت الجمهور بإعلام مضلل ترافق مع مجموعة من العمليات العسكرية استهدفت مجموعات من الأقليات، ثم نسبت هذه العمليات للفصائل الإسلامية الإرهابية، وبطبيعة الحال، فقد ذهبت السلطة بعيدًا في استثمار هذه الفصائل إلى الدرجة التي أفرجت عن قياداتها الذين كانوا في السجون، والكثير من المعلومات أكدت بأن السلطة مولت وسلّحت هذه الفصائل، ريثما تدخلت قطر وتركيا، وتبنت كل منهما جزءًا من هذه الفصائل، حتى تحوّلت سوريا إلى ملعب للعنف، وكان حمد آل ثاني قد قالها :”هوشة على طريدة”.
بالنتيجة، بدل أن يتحوّل المجتمع الذي عانى من الالغاء، إلى مجتمع له قواه وتمثيلاته وهويته، فقد تحوّل إلى مجتمع يشكك بنفسه، فمع أول تجاربه في البحث عن الحرية واالكرامة، كان الحصاد هو الدم، مما أدى إلى ارتكاسات حادة في الوجدان العام، وصلت هذه الارتكاسات إلى إحلال الطائفية بديلاً عن المواطنية، والتناحر بديلاً عن التعايش، ونجح النظام في إعادة البلاد إلى الزواريب بعد أن كانت ذاهبة نحو الدولة.
اليوم، وبعد تسع سنوات من حرب مدمرة، يعود الصراع على الهوية، ففي جانب ما، ثمة من يبحث عن هوية إسلامية للدولة، وفي جانب آخر ثمة من يبحث عن هوية عربية للدولة، وعلى كل الجوانب ثمة من يبحث عن تقسيم الدولة بعد رسم شعار استحالة لتعايش أو التسامح ما بين السوريين.
وحدها الهوية السورية تغيب عن المشهد، وهو على وجه التحديد ما يريده النظام ويطمح اليه.
وحدها الهوية السورية تغيب عن المشهد، وهو ما تؤكده المعارضات عبر تطييفها، وطروحاتها، وعبر المشهد العام لنخبها.
انتكس المجتمع مرة أخرى بعد أن دفع أثمانًا باهضة لانتزاع هويته ليعود مرة ثانية للاندماج بالسلطة، مع فارق واحد:
ـ كان الاندماج يقوم على التماهي مع سلطة محلية، وبات يقوم على التماهي مع سلطات الخارج.. التماهي مع التركي، القطري، السعودي، الأمريكاني، الروسي… تماه مع من يموّل، أو يستضيف او يستقبل.
تلك خلاصة حكاية، لن تلبث التراجيديات الكبرى أن تنسحب امام هولها.
مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.