مرصد مينا
أن يتخوف الإسرائيليون من محكمة الجنايات والعدل الدولية، فتلك مسألة قد لا تغير من حقيقة الارتكابات الفظيعة بحق الفلسطينيين، وهي ارتكابات تصل إلى مصاف “جرائم الحرب”، غير أن ما يحدث في الداخل الإسرائيلي يفيد بالإجابة التالية:
ـ نعم ثمة من يتخوّف من رفع الغطاء عن تلك الجرائم ووضعها مكشوفة أمام الرأي العام العالمي.
يحدث ذلك فيما تواصل شخصيات إسرائيلية نافذة لغة “الترانسفير” وقد يكون أبرز الناطقين بهذه الغة الوزيرين إيتمار بن غفير وباتسلئيل سموتريتش، ليسا وحدهما من يفعلان ذلك فثمة أوساط تحسب نفسها على اليسار الإسرائيلي تناصر فكرة “التهجير الطوعي” لفلسطينيي القطاع، بحجة أن هذا يخدم هدفاً إنسانياً، ويتزامن ذلك مع توجّه جنوب إفريقيا لمحكمة العدل الدولية في هاغ، طالبةً فتح ملف تحقيق ضد إسرائيل، بشبهة ارتكاب جريمة إبادة شعب وجرائم حرب، وتتجه وزارة القضاء الإسرائيلية لعدم مقاطعة المحكمة، بل انتداب قاض دولي بارز للدفاع عنها هناك.
البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) عقد اجتماعاً للتداول في مسألة “تهجير الفلسطينيين من القطاع، واستعادة المستوطنات الإسرائيلية داخله”، في هذا الاجتماع ووفق ها آرتس قال النائب تسفي سكوت وهو من حزب “القوة اليهودية” ، إنه على الأقل ينبغي احتلال شمال القطاع وضمّه وتدمير منازل الفلسطينيين وبناء مستوطنات على أنقاضها.
وقبل ذلك، أدلى نائب من “الليكود” موشيه سعاديا، بأقوال تندرج ضمن دعوات التدمير والتهجير: “كما هو مفهوم للجميع بأن اليمين كان محقّاً بما يتعلّق بالشأن الفلسطيني، فاليوم حيثما ذهبت تسمعهم يقولون لك: “دمروهم”!
لكن خطاب التدمير والتهجير، وتسوية قطاع غزة مع الأرض، يرد على لسان الوزراء، لا النواب فحسب، فقد سبق أن قال وزير المالية والوزير الإضافي باتسيلئيل سموتريتش إنه “إذا كان داخل قطاع غزة 100 أو 200 ألف عربي وليس مليونين فإن كل خطاب “اليوم التالي” سيتغيّر.
أكثر من ذلك عبّر وزير التراث اليهودي عمّا تتمناه أوساط إسرائيلية غير قليلة بقوله إنه ينبغي إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة كواحدة من الطرق للانتصار في الحرب.
وقبله، هاجمت الوزيرة المستوطنة أوريت ستروك سلاح الجو لأن “طياريه يرفضون للوهلة الأولى القيام بقصف مدنيين داخل القطاع” وكأن كل هذا الدمار والقتل والمذابح لا يكفيها ولا تشبع شهوة الانتقام والقتل والكراهية للفلسطينيين.
يتفق مع ذلك بعض الجنرالات في الاحتياط، أمثال مستشار الأمن الأسبق غيورا ايلاند، الذي يواصل بشكل منهجي، تصريحاً وكتابة، مطالبته بخنق غزة، وحرمان كل سكانها من الماء والدواء، بدعوى أنه لا فرق بين مدنيين وعسكريين، و”كلهم إرهابيون”، وأنه بدون ذلك ستفشل إسرائيل في حربها.
وتعكس مثل هذه التصريحات أفكاراً دفينة معشّشة في أذهان عدد كبير من الإسرائيليين، بعدما بات خطاب التهجير القسري، أو التهجير الصامت، أو التهجير طواعية، جزءاً من الخطاب السياسي السائد، ومن التيار الرئيس في الحلبة الإسرائيلية، بعدما كان محصوراً في هوامشه. واللافت أن هذا الخطاب له جذور في اليسار الصهيوني، قبل وخلال وبعد نكبة 1948، وما زالت أوساط تحسب نفسها على هذا اليسار تناصر فكرة “التهجير الطوعي”، أمثال رئيس لجنة الخارجية والأمن المعارض رام بن براك من حزب “هناك مستقبل”، الذي كتب مقالاً مشتركاً مع نائب “الليكود” المتشدد دان دانون طالباً فتح باب الهجرة للفلسطينيين داخل القطاع، بحجة أن هذا يخدم هدفاً إنسانياً.
على خلفية كل ذلك، تحذّر بعض الأوساط الإسرائيلية من استمرار الوزراء والنواب في دعواتهم للتهجير والتدمير، منها صحيفة “هآرتس” التي تدعو في لليقظة قبل أن “يقع الفأس بالرأس”.
صحيفة ها آرتس دعت كل هؤلاء إلى الحذر “قبل أن يقع الفاس في الراس” على حد تعبيرها، دون أن تنسى القول “في إسرائيل حالة عماء وعنصرية مرضية غريبة الأطوار، لا تؤمن بإنهاء الاحتلال والصراع على مبدأ الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، بل بمواصلة كنس القضية الفلسطينية تحت سجادتهم”.
وتمضي “هآرتس” في تحذيراتها: “حقيقة أن إسرائيل تقاد من قبل حكومة هي الأكثر تطرّفاً في تاريخها، وأعضاؤها يتحدثون عن “محو قطاع غزة”، ويتدارسون علانية فكرة الترانسفير، يدعون لاحتلال قطاع غزة، وبناء مستوطنات داخله مجدداً، لجانب الحقيقة أن النقاش الجماهيري يعمل على تطبيع قتل 50 ألفاً، أو 100 ألف مواطن في غزة، تجويع السكان، ومنع دخول مساعدات إنسانية، كوسيلة ضغط على “حماس”.. كل ذلك من شأنه أن يساعد محكمة العدل العليا في هاغ لأن تنسب لإسرائيل النوايا بالمساس بالمدنيين.
وتتابع: “تصريحات التهويش لدى قادة كبار في إسرائيل تزيد من خطورة حالتها القضائية. الإسرائيليون لا يسمعون أنفسهم.
وتخلص “هآرتس” للتأكيد على أن خط الدفاع يكمن في قيام إسرائيل بالإثبات بأنها تفعل كل شيء لمنع المساس بالمدنيين، وتدخل دوماً مساعدات إنسانية، وتعمل ضد “حماس” فقط، لكن الطريق المجدية لزعزعة أسس الدعوى ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية هي إبعاد الوزراء المحرضين المشجعين على ارتكاب جرائم حرب من الحكومة.
وتتابع: “هكذا فقط يمكن إقناع العالم بأن الأفكار العبثية التي ينشرها هؤلاء الوزراء لا تمثّل الواقع. ينبغي فعل ذلك بسرعة قبل أن يدفع هؤلاء الوزراء إسرائيل نحو هاوية ومكانة الدولة مجرمة الحرب”.
ما تُحذّر منه “ها آرتس”، يفي بالقول إن حكومة بنيامين نتنياهو قد انتقلت إلى طور جديد يمكن وسمه بـ “حكومة نازية”، وليس ما بعد مثل هذا الوصف وصفاً لتشكيل ما يكفي من إدانتها، غير أن السؤال المتبقي:
ـ متى كانت الإدانة قوّة رادعة لحكومات لا تشتغل سوى بـ :”أفعال القوّة”.
كل ما سيتبقّى هو الإصغاء إلى ها آرتس التي تدعو الإسرائيليين بدورها لـ :
ـ الإصغاء إلى أنفسهم.